السبت، 16 أغسطس 2008

1-سعيد يجد نفسه فوق خازوق بلا رأس

كتب إليّ سعيد أبو النحس المتشائل، قال: جاءت النهاية حين استيقظت في ليلة بلا نهاية. فلم أجدني في فراشي. فزارتني البردية. فمددت لها يدي أبحث عن سترة فإذا بها تقبض ريح.
رأيتني جالسًا على أرض صفاح. باردة مستديرة. لا يزيد قطرها على ذراع. وكانت الريح صرصرًا والأرض قرقرًا. وقد تدلت ساقاي فوق هوة بلا قرار كما تدلّى الليف في الخريف. فرغبت في أن أريح ظهري. فإذا بالهوة من ورائي كما هي الهوة من أمامي وتحيط بي الهوة من كل جانب. فإذا تحركت هويت. فأيقنت أني جالس على رأس خازوق بلا رأس.
فصرخت: النجدة! فجاءني بها رجع الصدى واضحة حرفًا حرفًا، فعلمت أنني جالس على علو شاهق. فرحت أسلي وحشتي بمجاذبة الصدى أطراف الحديث. فكان الحديث طريفًا حتى افترت الهوة عن ابتسامة فجر أغبر كأنها العبوس.
فماذا أنا فاعل?
فناديت عليّ قائلاً: هدئ من روعك، يا ابن النحس، واجعل أمرك شورى مع عقلك. فما الذي وضعك هذا الموضع، وهل من المعقول أن تنام في فراشك مساء فتستيقظ فإذا أنت على خازوق? تأبى هذا الأمر نواميس الطبيعة وأحكام المنطق. فأنا، إذن، في حلم لا غير على الرغم من أنه حلم طويل.
فما بالي أظل قاعدًا على هذا الخازوق، تحزمني البردية ثم تنشرني لا ستر ولا ظهر ولا أنيس، ولا أنزل?
هذا خازوق في كابوس لا محالة. كابوس عن خازوق. فإذا نزلت عن الأخير نفضت الآخر عن صدري فأعود إلى فراشي وأتغطى وأتدفأ. فكيف أتردد? أخوفًا من أن أهوي من هذا العلو الشاهق إلى قاع الهوة، كبطة أردتها رصاصة صياد بط، فأتوجع فأموت?
ولكن موضعي هذا هو موضع الوهم على خازوق الوهم. فهو فيما يراه النائم من أحلام تخالف نواميس الطبيعة وأحكام المنطق. فهيا، هيا احتضن هذا الخازوق بساعديك وبساقيك وبكل ما فيك من عزم وحزم وإرادة شديدة عند الشدة، ثم اهبط عليه وئيدًا كالسنجاب.
فأزمعت أمري. فحركت ليفتيّ المتدليتين أتحسس صفحته فإذا بها ملساء كجلد الثعبان باردة مثل بروده. فأيقنت أنني لن أقوى على التشبث بهذا الثعبان. وإذا نزلت عليه فأنا واقع لا محالة في القاع، فأدق عنقي فأتوجع فأموت. فأمسكت.
واتتني حكاية الساحر الهندي الذي ينصب الحبل فيظل يرتفع في السماء حتى يغيب رأسه في الغيم فيصعد عليه حتى يغيب ثم يعود ويهبط عليه فلا يتأذي بل يسترزق. ولكنني قلت: ما أنا بساحر هندي بل مجرد عربي بقي، سحرًا، في إسرائيل.
فأردت أن أصرخ: أنا في كابوس! ثم أن أقفز، فلا يمكن أن أموت!
ولقد صرخت. إلا أنني لم أقفز. فإذا كان موضعي هذا هو موضع الوهم فوق خازوق الوهم، وفيما يراه النائم في منامه من حلم أو من كابوس، فلن يدوم الأمر طويلاً قفزت أم قعدت. وسوف أستيقظ، لا محالة، فأجدني في فراشي متغطيًا متدفئًا. فما حاجتي، إذن، إلى مسابقة الساعات، وربما الدقائق والثواني، حتى لحظة اليقظة الآتية لا محالة?

ما حاجتي إلى القفز إذا كان القعود سيقودني إلى النتيجة نفسها?
وهزتني قشعريرة من البردية كادت أن تلقيني من فوق الخازوق لولا قشعريرة خاطر لم أستطع أن أكفه عني:
فكيف إذا كان هذا هو حقيقة وليس فيما يراه النائم من حلم أو من كابوس? أما القول بأنه مخالف نواميس الطبيعة وأحكام المنطق فلا يكفيني برهانًا على أنه غير حقيقي. ألم تبحث عائلتي، عائلة المتشائل عن السعادة طي القرون في عجائب خارجة عن نواميس الطبيعة وعن أحكام المنطق? وإذا ظل أجدادي يدكون أعناقهم وهم يبحثون تحت أرجلهم عن الكنوز المطمورة، فها أنا قد وجدت ضالتي، وأنا أنظر فوق رأسي، في إخوتي الفضائيين الذين أعادوا إلى نفسي الطمأنينة فكيف ينتظر مني، من دون آبائي وأجدادي، وأنا فوق هذا الخازوق بالضبط، أن أسلم أمري إلى نواميس الطبيعة وأحكام المنطق?
ولقد بقيت على هذه الحال أترنح بين قشعريرة وقشعريرة، بردية تقيمني ومحتد عريق يقعدني، حتى التقيت (يعاد) مرة ثانية فشعرت بالدفء لأول مرة منذ ألف عام!

الكتاب الثالث

يعاد الثانية
" انني تشهيت زغاريد النساء
يحملن شوق ألف عام للأغاني والفرح"
سميح صباغ-البقيعة
صدرت في أواسط 1974

الخميس، 14 أغسطس 2008

13-آخر الحكايات حكاية السمك الذي يفهم كل اللغات

ظل ما حدث في تلك الأمسية الخريفية، على شاطئ الطنطورة المهجور، سرًا مصونًا من أسرار الدولة حتى يومنا هذا. ولكنني لا أعتقد أنهم سيحولون بينك وبين إذاعته بعدما جري منذ حزيران.
ولا أعلم ما دونوه في دفاترهم المحفوظة عما جرى في تلك الأمسية: أما ما حفظته في صدري ولا أنساه جملة وتفصيلاً، فهو ما يلي:
وقفنا أمام القبو الخرب، الذي قالوا أن (ولاءً ) مختبئ فيه بأسلحته ومتفجراته، فتكلمت (باقية):
- دعني له، فأنا أمه. ولم أحمله جنينًا فقط بل حملته سري، وحملته أملي.
فانتحيت جانبًا وجلست على سور متداعٍ أنظر إلى البحر الساكن فلا أرى، وأنظر إلى الشمس الغاربة فأشعر بالغربة.
واقتربت أمه من القبو المهجور، خطوة، ثم اقتربت منه خطوة أخرى، ثم نادت عليه:
- ولاء، يا ولاء. بني لا تطلق الرصاص فأنا أمك! فأطبق صمت.
- لا جدوى من المقاومة، فقد كشفوا أمرك.
فأتانا صوته، وقد جعله العمق أجش، وهو يتكلم، كعادته، مضطرًا:
- كيف?
- هم أرشدوني إلى مخبئك.
لست بمختبئ، يا أماه. إنما حملت السلاح لأنني مللت اختباءكم. فأطبق صمت.
حتى عاد صوته يأتينا من الأعماق. فعجبت لهذا الصوت العميق كيف يحتويه صدره الضامر:
- يا امرأة، يا التي هناك، من أنت?
- أمك أنا يا ولاء، فهل ينكر الولد أمه?
- أمي، وتجيء معهم!
- بل أرسلوني، مع والدك، وحدنا يا ولاء... ها هو جالس على بقية سور ينتظر إنقاذ بقيته.
- فلم لا يتكلم?
- إنه لا يحسن الكلام.
فتنحنحت.
- ما الذي جاء بك، يا أماه?
- أرسلوني كي أقنعك بأن تلقي سلاحك، فتخرج إلينا، فتسلم.
- لماذا?
- قالوا: رحمة بي وبأبيك.
- قه، قه، قه..
- أتطلق الرصاص على البطن الذي حملك?
- بل أقهقه، يا أماه. أرأيت كيف أصبحوا يتحدثون عن الرحمة. فكيف بهم إذا لعلعت?
فتنحنح العسكر.
- ولكنهم لا يرحمون أحدًا يا ولدي.
- فخفتهم?
- خوفي عليك يا ولاء.
فأطبق صمت، حتى عادت تناديه:
- ولاء يا ولدي، ألق سلاحك واخرج!
- يا امرأة، يا التي جئت معهم، إلى أين أخرج??
- إلى الفضاء الرحب يا بني. كهفك ضيق، مسدود كهفك. وسوف تختنق فيه.
- أختنق?.. أتيت إلى هذا الكهف كي أتنفس بحرية. مرة واحدة أن أتنفس بحرية!
في المهد حبستم عويلي. فلما درجت أبحث عن النطق في كلامكم، لم أسمع سوى الهمس.
في المدرسة حذرتموني: احترس بكلامك! فلما أخبرتكم بأن معلمي صديقي، همستم: لعله عين عليك! ولما سمعت حكاية الطنطورة، فلعنتهم، همستم في أذني: احترس بكلامك!
فلما لعنوني:
احترس بكلامك!
وحين اجتمعت بأقراني، لنعلن إضرابًا، قالوا لي، هم أيضًا: احترس بكلامك!
وفي الصباح، قلت لي، يا أماه: إنك تتكلم في منامك، فاحترس بكلامك في منامك!.. وكنت أدندن في الحمام، فصاح بي أبي: غيِّر هذا اللحن. إن للجدران آذانًا، فاحترس بكلامك!
احترس بكلامك! احترس بكلامك!
أريد ألاّ أحترس بكلامي، مرة واحدة!
كنت أختنق!
ضيق هذا الكهف يا أماه، لكنه أرحب من حياتكم!
مسدود هذا الكهف يا أماه، ولكنه منفذ!
فأطبق صمت حتى سمعنا صليل أسلحة من بعيد، فهتفت به أمه:
- منفذ?
الموت ليس منفذًا بل نهاية.
ليس في حياتنا ما يعيب حياتنا. فإذا استترنا فعلى أمل الخلاص استترنا. وإذا احترسنا فحرصًا عليكم.
أي عيب في الخروج إلينا، إلينا نحن يا ولاء، أبيك وأمك. وحيدًا لا تقدر على شيء.
- أقدر عليكم.
- لسنا أعداءك.
- لستم معي.
- بني، احترس..
- قه، قه، قه.. قوليها، يا أماه: احترس بكلامك! لقد أصبحت حرًا!
- حرًا..
كنت أعتقد أنك حملت السلاح لتنتزع حريتك!..
فأطبق صمت حتى سمعتها تقهقه:
- لو كنا أحرارًا، يا ولدي، ما اختلفنا. لا أنت تحمل سلاحًا ولا أنا أدعوك إلى احتراس. إنما نحن نسعى في سبيل هذه الحرية.
- كيف?
- مثلما تسعى الطبيعة في سبيل حريتها. فالفجر لا يطلع من ليله إلاّ بعد أن يكتمل ليله. والزنبقة لا تبرعم إلاّ بعد أن تنضج بصلتها. الطبيعة تكره الإجهاض يا ولدي.
والناس لا يتحملون ما أنت مقدم عليه.
- سأتحمل عنهم حتى يتحملوا عن أنفسهم.
- ولدي، ولدي،
هل هناك أجمل من وردة في عروة شاب? ولكن أمها لا تستطيع أن تمدها بالغذاء. دعني أضمك إلى صدري.
فأطبق صمت، حتى سمعته يتأوه:
- أماه، أماه، حتى متى ننتظر برعمة الزنابق?
- لا تنتظر يا بني. إنما نحن نحرث ونزرع ونتحمل حتى يحين الحصاد.
- متى يحين الحصاد?
- تحمل!
- تحملت عمري.
- فتحمل!..
- سئمت خنوعكم.
- لدينا فتية وفتيات لم يخنعوا. فاحذُ حذوهم! تحملوا أطول ليل، فحملوا الشمس فوق جباههم. ما استطاعوا إخراجهم من أرض إلاّ إلى زنزانة. وما هدموا عليهم بيتًا إلاّ بعد أن هدموا عليهم أسطورة..إنك يائس، يا ولدي.
- لا أرى حولي سوى الظلام.
- في الكهف.
- حياتي كلها كهف.
- فأنت لا تزال في البصلة تتبرعم. اخرج إلى نور الشمس!
- أين مكاني تحت الشمس?
- تحت الشمس.
- الدنيا بخير، يا ولدي. فكم من شعب انتزع حريته. وسيأتي موسمنا.
- أتظلين تحلمين بالجزر السبع وراء البحيرات السبع?
- إنها جزرنا وبحارنا.
والسندباد، يا ولاء، كف عن رحلاته، وصار يبحث عن الكنوز في تراب أرضه.
- حياته على أرضه لا تطاق.
- حين تصبح الحياة أرخص من الموت يصبح ما أصعب من بذلها أن نعض عليها بالنواجذ.
- ستموتين يا أماه، دون أن يعود أهلك.
- قبل أن يعود أهلي!
- كيف?
- الزمن. دع الزمن يزمن.
- قه، قه، قه.
- أترميني بالرصاص? أتقتل التي خلفتك?
- بل الزمن يقتل التي خلفتني ويقتلني.
لا تستخف بالزمن، يا ولاء. فبدونه لا ينبت زرع فنأكل.
ولا تطلع شمس بعد مغيب..
فهل جاء?
- سيجيء.
ولا يخرج سجين من سجنه.
- فهل خرج?
- سيخرج.
ولا تعبر تجربة حتى يتعظ الناس.
- فهل اتعظوا?
- هل تريد لجيل واحد أن يحسم في الأمر?
- جيلي
- لماذا?
- لأنه جيلي.
- بأي سلاح يحارب جيلك?
فأطبق صمت.
حتى سمعتها تسأله، مثلما كانت تسأله، وهو طفل، أن يقبلها:
- أي سلاح في يدك الآن يا ولاء?
- رشاش قديم من الصندوق.
فرأيتها تندفع راكضة نحو القبو المهجور، ويداها ممدودتان على جانبيها، كجناحي طير يسرع إلى عشه ليحمي جوازله، حتى كادت تغيب في فتحته المعتمة. وإذا به يصيح فيجمدها في مكانها:
- إنهم قادمون وراءك، يا أماه. فهل تحمينهم بحبي?
- لا يا ولاء، يا ولدي، بل آتية أنا إليك. ففي الصندوق رشاش آخر. وسأحميك بحبي.
وما أن غابت عن ناظري حتى اختلط الحابل بالنابل. ولم أعد أميّز الأشباح المندفعة من هنا ومن هناك. وقد تركوني لحالي. فما كنت أسمع سوى صراخ مكبوت وأوامر مبحوحة. وكنت أتقدم، ثم كنت أتأخر. وكنت أدور على نفسي. وأسمع شتائم ولكنها لم تكن موجهة إلى شخصي.
وفيما يشبه الحلم، وقد غابت النجوم وكلح وجه القمر، رأيتهم يندفعون نحو البحر، فأسمع طشًا وأحس برش، وقائلاً يقول: غطسا هنا. وآخر يقول: من هنا. ولا أرى الرجل الكبير بل أسمع صوته يمنعهم عن إطلاق أية رصاصة، ويحثهم على الغوص.
ولم أكن موجودًا حين أحضروا الكشافات والضفادع البشرية. فقد تأبطني معلمي يعقوب، الذي وقف إلى جانبي، وأعادني في سيارته إلى بيتي المقفر.
وعادني، في اليوم التالي، وأمرني أن أبقي ما حدث سرًا مكتومًا فيعفي عني وأعود إلى عملي.
- بعد أن قتلتموهما?
فأخبرني، وأنا مذهول بين مصدق ومكذب، إنهما استطاعا الفرار ولم يعثر لهما على أثر.
وقال إنهما شوهدا يتجهان نحو البحر، الأم وولدها، هذه تحتضنه وهو يدعمها، حتى غاصا في البحر. ففوجئ العسكر بالأمر. ولكن الرجل الكبير منعهم عن إطلاق الرصاص حتى لا ينتشر الخبر. وهو موقن أنه سيلقي عليهما القبض، أو أن يموتا غرقًا. إلاّ أن البحث عنهما، في الليل ثم في النهار، لم يكشف عنهما حيين، ولم يكشف عن جثتيهما. فبقي مصيرهما سرًا غامضًا. ثم قال: ويجب أن يظل سرًا مصونًا من أسرار الدولة.
وكان يعقوب، في الأيام الأخيرة، شفوقًا بي. ولكنني لم أشأ أن أطلعه على ما أعلمه عن الكهف في جوف الصخر في قاع البحر. وكنت أعتقد أنهما قررا الموت فيه.
وكم من مرة حاولت أن أستجلي الأمر، فلا تطاوعني نفسي. فإن بارقة أمل، بأنهما على قيد الحياة، خير من أن أغرق هذه البارقة.
وكنت أذهب إلى شاطئ الطنطورة، وقد أصبح عامرًا بالمستحمين، فأقعد قعدة ولاء على صخرته في لسان البحر، وأرسل خيطي، وأناديه بقلبي أن يرد عليّ.
فإذا بطفل يهودي وقد قعد إلى جانبي دون أن ألحظه يفاجئني بالسؤال: بأية لغة تتكلم يا عماه?
- بالعربية.
- مع من?
- مع السمك.
- والسمك، هل يفهم اللغة العربية فقط?
- السمك الكبير، العجوز، الذي كان هنا حين كان هنا العرب.
- والسمك الصغير، هل يفهم العبرية?
- يفهم العبرية والعربية وكل اللغات. إن البحار واسعة ومتصلة. ليس عليها حدود وتتسع لكل السمك.
- أوي فافوي
فيناديه والده فيخف إليه. فأسمعهما يتحدثان، فأهش فيهما وأبش. فيحسبني الطفل سيدنا سليمان ويشيران نحوي. فيبتسم والده. فيمران قريبًا. فأكبر في عينيه حتى يصر على البقاء معي، فأعطيه من صيدي سمكة صغيرة. فيحدثها ولا تتكلم. فأقول له: إنها لا تزال صغيرة. فيرمي بها إلى البحر كي تكبر وتتعلم النطق. فأقول في نفسي: لو بقي الناس أطفالاً لما كبر ولاء ولما ضاع. ألم يكن الرجل الكبير في يوم من الأيام، طفلاً صغيرًا?
ولقد عشت فيما بعد شهورًا وأنا موقن بأن إشارة ستأتيني منهما. فلا يطرق طارق بابي حتى أقوم ملهوفًا: لعله منهما.
ولما سمعت أن من بين كتائب الفدائيين كتيبة باسم الطنطورة، أخذت أقفل النوافذ وأستلقي على فراشي وأنا أحتضن الترانزستور. حتى أقبل اليوم الخامس من حزيران فسمعت في ليلته الطويلة صوتًا جهوريًا يصرخ من تحت:
- أطفئ الضوء، أطفئ الضوء! فأطفأته ولم أنم .

12-حادث أصعب على التصديق من الموت على الأحياء

ذلك أننا انشغلنا عن وحيدنا ولاء بصون السر وبالبحث عن الكنز في أعماق البحر، في خفاء أعمق منه غورًا.
حتى أصبح شابًا يافعًا غريب الأطوار. لا يتكلم إلاّ مضطرًا. فإذا تكلم انتشر كلامه انتشار غيوم الصيف التي تتخيلها كما يعن على بالك: رؤوس حيوانات، أو فوارس على أفراس وهي تشن الغارة، أو ملاك مسجى تحت قدمين.
فأقبل ذلك اليوم المشؤوم، من الخريف الأخير قبل الخريف الحزيراني المقيم . فإذا بضوضاء وجلبة تدهمني من كل جانب. وإذا بعسكر كثير يدخلون علىّ في مكتبي. وقد أشرعوا سلاحهم الناري. وعلى رأسهم الرجل الكبير وقد خلع نظارتيه السوداوين ولبس وجهًا أشد سوادا من القطران. وهو ينفض أطرافه وجوانحه. ووقف وراءه معلمي يعقوب، وقد طأطأ رأسه. ووراءهما وحواليهما العسكر. فأقعدتني المفاجأة عن القيام وأنا أحسب أن القيامة قامت.
وزاغت أبصاري، فرأيت صفوفًا متراصة من الرؤوس تتراقص في جدران الغرفة وعلى أرضها. وكنت أرى هذه الرؤوس تتسرب من بين أصابع يدي، المشلولتين فوق المكتب. وكانت هذه الرؤوس تفغر أفواهها وتصرخ في وقت واحد بكلام لم ألتقط منه سوى شتائم عربية، أضحكتني صياغتها غير المألوفة، فضحكت، فأضحكني ضحكي، فأغربت بالضحك حتى تقطعت خواصري. ولم أثب إلى رشدي إلاّ بعد أن وثبوا عليّ فطرحوني أرضًا فاقد الرشد.
وظللت فيما يشبه الغيبوبة وهم يحاولون أن يهزوا دماغي المهزوز برواية أصعب على التصديق من الموت على الأحياء:
ولاء، ابني وحيدي، هذا الشاب الحيي الضئيل، الذي يأكل القط عشاءه، أصبح فدائيًا وأعلن العصيان المسلح على الدولة!
وأنا المسؤول. وتلك الحية الرقطاء، الطنطورية، التي كان يجب أن ترحل مع أهلها، مسؤولة. ومعلمي يعقوب مسؤول. هذا الحمار الذي أعماه شرهه الشرقي، إلى طعامي الشرقي، عن واجب اليقظة. ولا ريب أننا تآمرنا، (كلكم، كلكم)، على الرجل الكبير، ذي القامة القصيرة، حتى نخرب بيته. (ولكنني سأخرب بيتكم)!
أما الدولة فتعرف كيف تحفظ أمنها، وتضرب حتى لات ساعة مندم.
فقد استطعت أن أجمع، بين الشتيمة والشتيمة والغيبوبة والغيبوبة، شتات رواية أشبه بحكايات المردة والجن والعفاريت، عن حياة أخرى من حيوات وحيدي ولاء.
أنه أنشأ، مع اثنين من زملاء الدراسة، خلية سرية. فانتشلوا من كهف، في غور صخري في بحر الطنطورة المهجور، صندوقًا محكم الصناعة والإقفال، لا يدخله ماء ولا تناله رطوبة، فيه سلاح وفيه ذهب كثير.
- باقية، يا باقية، أهذا ما اتفقنا عليه?
تروا سلاحًا وذخيرة ومتفجرات. وأقاموا مخزنًا وموئلاً سريًا في قبو مهدوم ومهجور في خرائب الطنطورة. فأرسلوا أحدهم إلى لبنان حتى يقيم الصلة بالفدائيين.
قال الرجل الكبير: فوصلناه بأيدينا. أمسكنا به وبالآخر.
أما ولاء فالتجأ إلى الموئل في القبو، وقد أجمع أمره على أن يموت شهيدًا.
- فجئناك يا سعيد، يا ابن النحس، يا ابن المتشائل، كي تقوم وتمضي إليه فتقنعه بأن يرجع عما هو مقدم عليه من انتحار صبياني، شفقة بك وبأمه. ولم نأتك إلاّ لأنك رجلنا. فنريد أن نخدمك كما خدمتنا.
قم إلى بيتك فاصحب أمه، الطنطورية، وامضيا إلى خرائب الطنطورة قبل أن تصبح حياتكم كلها خربة واحدة. فإذا سلم منحناه الحياة، من أجل خاطرك. فإذا أبى إلاّ أن يفضحنا متم.
فلما لم أستطع القيام على رجلي، حملوني حملاً، فتحاملت باقية على نفسها وعلى دموعها. ولم أشأ أن أعاتبها صونًا للسر، حتى ألقوا بنا على شاطئ الطنطورة. ووقف العسكر بعيدًا. وكانت الشمس ترنو إلى المغيب في أمسية جف ريقها وحنا شفقها علينا شفقة.

السبت، 31 مايو 2008

11-بحث عجيب في الخيال الشرقي وفوائده الجمّة

لا لا، يا معلم. ليست حكاية السمكة الذهبية. وليست غيرها من حكايات ألف ليلة وليلة، هي السبب في ضياع ولدي، وحيدي، ولاء. فلو انطلق هذا الخيال الشرقي المكبوت، الذي تنفس بألف ليلة وليلة، لعانق النيرين.
ما قولك بالفلاح المسكين، الذي خاف على عروسه من كلام الناس، فوضعها في صندوق حمله فوق ظهره وقام يحرث أرضه وهي فوق ظهره يومًا يومًا.
فلما التقاه الأمير بدر الزمان، فسأله عن سبب هذا الصندوق محمولاً فوق ظهره، فأخبره، فأراد الأمير أن يرى بعينيه، فأنزله وفتحه، فإذا بعروسه مضطجعة، في الصندوق فوق ظهر زوجها، مع الشاب علاء الدين، أليس في الأمر عبرة يعتبرها مصدقو النهاشات في الأعراض، المحمولات، صونًا، على ظهور رجالهن في صناديق?

ولولا هذا الخيال الشرقي هل استطاع عربك، يا معلم، أن يعيشوا في هذه البلاد يومًا واحدًا? فأنت، في كل سنة في عيد الاستقلال، ترى العرب يرفعون أعلام الدولة ابتهاجًا، أسبوعًا قبل العيد وأسبوعًا بعد العيد. وتتزين الناصرة بأكثر مما تتزين تل أبيب من أعلام خافقات. وفي وادي النسناس، بحيفا، حيث تآخي العرب واليهود الفقراء، يعرف بيت العربي من بيت جاره اليهودي بأعلام الدولة الخفاقة فوق بيت العربي فحسب. أما بيت اليهودي فحسبه أنه يهودي. وكذلك السيارات في عيد الاستقلال، تعرف قومية صاحبها بأعلامها الخفاقة. فلما سألت أحد أبناء قومي عن السر في هذا الأمر، أجاب: خيال يا أخ! هؤلاء أوروبيون خيالهم باهت، فنرفع الأعلام حتى يروا بعيونهم.
قلت: فلماذا لا يرفعون الأعلام هم أيضًا?
قال: خيال، أيضًا، يا أخ! هم يعرفون أن خيالنا شرقي، نفاذ، نرى به ما لا يرى. فنرى الأعلام وهي مطوية في الصدور. ألم يحاول المرحوم أشكول أن يحول الحكم العسكري إلى شيء يرى ولا يرى، فرأيناه، على الرغم من ذلك، في أوامر الإقامة الجبرية وفي أخاديد الجروح في خدودنا? خيال، يا محترم.
والشاب العربي، الذي صدم بسيارته سيارة أخرى في شارع ليلينبلوم في تل أبيب، ما كان ينقذه سوى خياله الشرقي? نزل من سيارته وهو يصرخ: عربي، عربي! فتلهى الناس بضرب الضحية حتى ولّى أخونا الأدبار.
والندل شلومو، في أفخم فنادق تل أبيب، أليس هو سليمان ابن منيرة، ابن حارتنا? ودودي، أليس هو محمود? وموشى، أليس هو موسى بن عبد المسيح? فكيف لا يرتزق هؤلاء، في فندقِ أو في مطعم أو في محطة بنزين، لولا الخيال الشرقي وحكاية السمكة الذهبية، وجبل المغناطيس، في وسط البحر الهائج، فلا تستطيع أن تشق عبابه بقاربك إلاّ إذا امتنعت عن ذكر الله، سبحانه وتعالي، على لسانك مهما يمج الموج وتعصف العاصفة?
وهل غير ألف ليلة وليلة نفع تلك القرية الصغيرة الخربة الوادعة، بالقرب من باقة الغربية في المثلث الصغير، حين جاءوا إليها في الانتخابات الثالثة وأمروها أن تمنع الشيوعيين، بالقوة، من عقد اجتماعاتهم في القرية وإلا فسوف يشردونهم، بالقوة، عبر الحدود?
فلما أرسلني يعقوب إلى القرية، قبيل موعد الاجتماع بساعة، لأستطلع الأمر ولأضمن تنفيذ الضرب، دخلت القرية فما التقيت إنسانًا. فتنقلت بين بيوتها. فإذا أبوابها مفتوحة. فدخلت البيوت من أبوابها المفتوحة. فما وجدت حيًا سوى دجاجات سائبة. وأما الكلاب فأقعت في القيلولة.
فرحت أمشي مذهولاً، أتصورني الأمير موسى وقد دخل مدينة النحاس المسحورة، فإذا (لا حس فيها ولا أنيس. يصفر البوم في جهاتها. ويحوم الطير في عرصاتها. وينعق الغراب في نواحيها وشوارعها ويبكي على من كان فيها)
حتى سمعت سعالاً في بيت من الطين. فولجته فإذا شيخ ضرير مقعد. فلما سمع وقع أقدامي قال: هل جئتم، يا شوعة?
قلت كاذبًا: جئنا. فأين أهل البلد?
قال: خرجوا جميعًا إلى تلة قريبة ليكفوا شر الحاكم وشركم عن هذه القرية. فاخرجوا، يا بني، فيعود أهلها إليها.

ولما استوضحته الأمر أبلغني أنهم اجتمعوا شورى بينهم فقالوا: لا نعرف هؤلاء الشوعة ولا يعرفوننا.. وليس بيننا وبينهم دم ولا ثأر. فإذا أراد الحاكم قتلهم فهو أولى بذلك منا وأقدر عليه. وإذا لم نقتلهم قتلنا الحاكم. فقرروا أن يهجروا القرية حتى ينقضي النهار.
قال: أما أنا فبقيت لأن العمى قتلني. فلا أَقتُل ولا أُقْتَل. فاذهب، يا بني، حتى ينقضي اليوم على خير.
فمضيت إلى يعقوب بهذه البشارة. فصاح في وجهي: يا حمار. لقد فعلوها وأنت تحسبها بشارة? كل ما أردناه أن يفصل الدم بينهم، لا التلة!!
ولم أكن أحسبها بشارة بل أردت له أن يتوهم أنني أحسبها بشارة. أما ما كنت أفكر به فهو ما كان الأمير موسى يفكر به وهو يقرأ ما كان منقوشًا على لوح الرخام الأبيض الأول في مدينة النحاس الميتة:
(أين ملك البلاد، وأذل العباد، وقاد الجيوش?.. نزل بهم، والله، هازم اللذات ومفرق الجماعات ومخرب المنازل العامرات. فنقلهم من سعة القصور إلى ضيق القبور)، ثم وهو يقرأ ما كان منقوشًا على اللوح الثاني:
(أين الملوك الذين عمروا العراق، وملكوا الآفاق. أين من عمروا أصفهان وبلاد خراسان? دعاهم داعي المنايا، فأجابوه. وناداهم منادي الفناء، فلبوه. وما نفعهم ما بنوا وشيدوا. ولا رد عنهم ما جمعوا وعددوا)
ولكنني لم أكن أبكي كما بكى الأمير موسى.
وهذا كان حالي حين كنت أقضي حاجة في المحكمة العسكرية بالناصرة. فإذا بطفل في العاشرة من عمره يخرج إلى الباحة مذعورًا يسأل الرجال عن أمر. فأشاروا صوبي. وكانوا يعرفون صنعتي وبطاقتي. فأقبل عليّ الولد وهو يقول: الحاكم يطلبك. فهرولت إلى القاعة مرفوع الرأس أن الحاكم يطلبني، فإذا المحكمة معقودة. وإذا الطفل يقول: هذا، يا سيدي، من أقربائي. فبهت، فنطق بالحكم عليّ بالسجن ثلاثة أشهر أو بفدية خمسين ليرة. كيف? قيل: لأن الطفل، الذي ادّعى قرابتي، سافر إلى حيفا بدون إذن عسكري بالسفر إلى حيفا. وحيث إن أصول الديمقراطية تحول دون حبس الطفل فقد قرروا حبسي
فلما صحت أنكر قرابته ألقى الحاكم على الحضور محاضرة في رغبة الدولة في أن يتحلى رعاياها العرب، هم أيضًا، بالشجاعة الأدبية، وفي الدولة تحترم الذين لا يتنكرون لذوي القربى.
فلما أشهرت بطاقة اتحاد عمال فلسطين زجرني وقال: سأحيل أمرك على رؤسائك كي يعلموك الشجاعة.
فنقدتهم خمسين ليرة وخرجت شجاعًا.
فبحثت عن الولد، قريبي، فإذا هو بين الرجال واحدًا منهم وقد ضحك ضاحكهم وقال: خيال، يا محترم، خيال!
أما خيال ولاء، ابني ووحيدي، فقد وجد متنفسًا آخر.

الجمعة، 30 مايو 2008

10-حكاية السمكة الذهبية

فمنذ أن أصبح سر باقية سري، أصبحت الحذر مجسمًا يمشي على اثنتين. فلما أدركت أن الحذر هو من ذوات الأربع، رحت أمشي على أربع.
فلما أنجبت باقية طفلنا البكر، فأرادت أن تسميه باسم والدها النازح (فتحي)، فرفع الرجل الكبير، ذو القامة القصيرة، حاجبيه فوق المكتب تساؤلاً، سميناه (ولاء). ولما أدركت أن تحديد النسل هو من مقومات الولاء لم ننجب غيره. وكنت، كلما أثقل السر عليّ، أطلق لساني بإعلان الولاء في محله أو في غير محله. وكنت أعتبر نفسي باطنيًا حتى أرسلونا في وفد إلى أوروبا وحملونا قبعات (تمبل) لنهديها إلى إخواننا اليهود هناك، مع أحاديث اللبن والعسل وتزويج العوانس وإشفاء السرطان، فأهديتهم قميصي وبنطلوني وثيابي الباطنية. ولم أحتفظ إلاّ بسري الدفين.
وطول هذا الوقت كنت أختلي بباقية تغمغم همسًا بأحسن الطرق إلى انتشال الصندوق. حتى تواضعنا على كلام غريب لا يفهمه سوانا.
وكنت كلما وقفت أمام زملائي في الصنعة، فدهمني التفكير بالسر وشعرت به يحاول أن يقفز من عيني، أغمضهما حتى لا يقفز. حتى لبستني هذه الآفة، فصارت جفوني ترفّ، أغمضهما وأفتحهما. فقالوا: بالوراثة. فقلت: هذا جناه عليّ جدي لأبي. رحمهما الله. وما كنت كاذبًا.
ولما كان أكثر كلامنا أن في العجلة الندامة وفي التأني السلامة، فقد ظل (ولاء) يحبو متأنيًا حتى بلغ الرابعة من عمره. فاصطحبته إلى شاطئ الطنطورة إمعانًا في التعمية. وشجعته على صيد السمك.
وكنت، أجلسه على صخرة في لسان البحر. فيرسل خيطه. فأخلع ثيابي وأنزل البحر طالبًا منه أن يناديني إذا أقبل مقبل. ثم أسبح بعيدًا نحو الجزيرة القفراء الصغيرة، في عرض البحر أمام خرائب الطنطورة. فأغوص ما وسعني الغوص في كهف معتم تحت الصخر، في المكان الذي أرشدتني إليه باقية، فلا أجد سوى سمك يفر أو طحالب لاصقة. ولم أجرؤ على المضي بعيدًا في الكهف.
حتى أسمع بكاء ولدي ولاء، وقد استوحش. أو أسمع نداءه. فأخرج إلى السطح فأرى عاشقين يتعانقان على الشاطئ. فأعود أدراجي، ويمضيان في ذلك.
وكان ولاء يلح عليّ سائلاً: عمَّ تبحث يا أبي?

فأجيبه: عن السمكة الذهبية.
وأحكي له ما علق في ذهني من حكايات ألف ليلة وليلة. وأسرح به مع خيالي الباحث عن الكنز الذهبي منذ جدنا الأكبر، أبجر بن أبجر.
- فهل ستجدها يا أبي?
- إذا ثابرت على الغوص، ولم تفش السر، فسوف نجدها.
- فهل وجدها آخرون، يا أبي?
- لا بد أن يكون آخرون وجدوا سمكاتهم الذهبية.
- فإذا وجدناها، ماذا سنفعل بها، يا أبي?
- مثلما فعل بها الآخرون.
- فماذا فعل بها الآخرون، يا أبي?
- لم يطلعوني على سرهم.
فكان ينصرف إلى ما هو فيه من لهو أو من صيد. أو كان يعلن أنه يرغب في العودة إلى البيت. فنعود.
وما كنت أعلم أنه يعود لكي يختلي بوالدته. حتى أقبل يوم اقتعدنا فيه هذه القعدة على شاطئ الطنطورة فإذا به يفاجئني بالسؤال:
- لماذا، يا أبي، تخاف من أن يراك الناس وأنت تبحث عن السمكة الذهبية?
- حتى لا يسبقوني إليها.
- فإذا وجدتها، يا أبي، وعلمت الحكومة بالأمر، هل ستأخذها منا كما أخذت الطنطورة من جدتي ومن جدي?
- من أدخل هذه الأفكار إلى رأسك، يا ولد?
- ماما?
وفي تلك الليلة بقينا نتشاجر همسًا، باقية وأنا، كي أقنعها بأن تبقي الكنز سرًا عن ثالثنا، وأن نعلمه أن لا يفرط في كلامه، وأن يحبس لسانه، وأن يحذر الحذر كله، وألا يتكلم في هذه الأمور إلاّ همسًا، حتى طلع الفجر.
فما انتبهنا إلاّ وهو يدخل علينا، يمشي على رؤوس أصابعه، ويضع سبابته النحيلة على شفتيه المزمومتين، وهو يهمس:
- جاءت اللبانة!

الثلاثاء، 27 مايو 2008

9-حكاية الثريّا التي رجعت تسفّ الثري

وبعد عشرين عامًا، لما قرأت عن كنز العجوز اللداوية ثريا عبد القادر مقبول، كيف أضاعته لسلامة طويتها، أي لسذاجتها، أيقنت أنني أحسنت صنعًا لما لم أبق عنصرًا من عناصر الخطر والفجاءة إلاّ حسبت حسابه، واحتطت له حيطة شديدة، حتى بقي سري دفينًا ما كشفت عنه إلاّ الآن، ولك يا محترم.
ففي العاشر من أيلول، من العام الخامس ب. ح ، الموافق عام 1971م روت صحيفتكم الاتحاد، عن معاريب، عن هآرتس، عن الشرطة الإسرائيلية العامة، عن شرطة اللد الإسرائيلية، أن السيدة العجوز ثريا عبد القادر مقبول، السن خمسة وسبعون عامًا، عادت من الأردن إلى بلدها ومسقط رأسها، مدينة اللد، بموجب نظام العطلة الصيفية عبر الجسور المفتوحة. وذلك بعد أن ظلت بعيدة عن بلدها ثلاثة وعشرين عامًا لاجئة في عمان مع زوجها وأولادها.
عاشت في عمان مع زوجها وطفلها وأبي عمرة الذي رحمها فلم تنجب منه أطفالاً. حتى شب ولداها، فسعيا إلى الكويت في طلب الرزق. فعادا بحفنة نفط أحمر، شيدا بها بيتًا في عمان، شيعا منه والدهما إلى مقره الأخير. ثم أقبل أيلول الأسود، عام 1970، على صورة دبابة هاشمية نقية تقية من طراز شيرمان، هدمته فلم يخرج من تحت الأنقاض سالمًا سوى الثريا وطويتها السليمة.
فلما وقفت ثريا عبد القادر مقبول بين الأنقاض في صحراء الغربة القاحلة، تذكرت عزها الدارس في فردوسها المفقود، في بيتها العامر في اللد. وكانت خبأت مفتاحه في نقره في الجدار. وكانت جمعت مصوغاتها في صفائح دفنتها في ذلك الجدار. وكانت توكلت ونزحت مع النازحين عام 1948، وهي تؤكد لنفسها: غدًا أعود.
فلما أقبل هذا الغد، بعد ثلاثة وعشرين عامًا، أزمعت أمرها. وفي الصيف عبرت الجسر المفتوح. فضيعت اللبن.
ولما أرادت أن تدخل بيتها القديم في اللد لتنتشل كنزها، أغلقت وريثتها الشرعية، من عهد نوح، الباب في وجهها. فلم تفاجأ حيث إن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة.
فنصحها ذوو القربى، المقيمون في إسرائيل، أن تلتجئ إلى قبضة الأمن وعسس النظام، أي إلى الشرطة الإسرائيلية. فعملت بالنصيحة. فأرسلوا معها رجل شرطة ورجلاً قيمًا على أراضي إسرائيل. فلم يشاؤوا أن يقلقوا راحة الوريثة الشرعية، فأتوا منزل العجوز من خلف جداره، في منزل يقيم فيه ذوو قربى. فأحسنوا وفادتها. فأشارت إلى مكان في الجدار، فحفروا عميقًا. فوجدوا صفائح المصوغات. ثم أشارت إلى مكان آخر. فحفروا. فوجدوا المفتاح. فهللوا وكبروا واغرورقت عيون الجمع. ومسح الشرطي دموع رجل القيم بمنديله. فقوم القيم إنسانية رجل الشرطة تقويمًا عاليًا، فمسح دموعه بمنديله. وتعانق العرب واليهود. وتعايشا بدموع الفرحة والامتنان والإنسانية. فأبلغوا رجال الصحف. فنشروا الخبر. وأذاعته الإذاعة. وكم من معلمة في روضة أطفال، في تلك الأيام المشهودة، روت هذه الحكاية على أطفال الروضة، عن شرطة إسرائيل التي تبحث عن كنوز الأمهات الثكالى العربيات وتبحث عن الأطفال اليهود الضائعين، ولا يغمض لها جفن.
ولكن، حين مدت الأم الثكلى (الثريا)، يدها لتطول مصوغات عرسها، ناولها رجل القيم على أراضي إسرائيل (شهادة بالذهب، وأخذ الذهب وذهب. وأما الثريا فأخذت (شهادة الذهب) وذهبت، عبر الجسور المفتوحة، راجعة لتسف الثرى في مخيم الوحدات ولتدعو بطول البقاء لذوي القربى ولأولاد عمهم.
أما أنا فقد علمتني التجارب ألاّ أحسن النية، وأن أبقي الطوية مطوية، علمًا بأن بطاقة اتحاد عمال فلسطين لا تنفعني إلاّ حين لا أنفع غيري، أو أن يعود النفع على الرجل الكبير، ذي القامة القصيرة، الذي لا ينفع أحدًا.
فلما نقلت متاعي من بيت إلى بيت أصلح للزوجية، من وادي النسناس في حيفا الذي لا يصلح لعشار البهائم، إلى شارع الجبل، ودفعت ثمن المفتاحية، أو خلو الرجل، حتى لم يبق معي ما أستأجر به دابة لنقل متاعي، فنقلتها راجلاً، إذا بسيارة تقف فجأة أمامي. فينزل منها تأبط شرًا. فيستل من تحت إبطه قلما وورقة ويقول:
- نحن (وهو وحده!) من الحارس على أملاك العدو.
فاستللت بطاقة اتحاد عمال فلسطين من جيب المؤخرة، وهتفت: نحن معكم!
قال: لا، لا. أريد شهادة تثبت أن هذا المتاع هو متاعك، ولم تسرقه.

فأسقط في يدي. فأعدت البطاقة إلى جيب المؤخرة. فأسقط في المؤخرة: متى حفظ الناس شهادات تثبت أن متاع بيتهم هو متاع بيتهم ولم يسرقوه? فخفت على بنطلوني.
قال: لا، لا. هذا متاع بيت عربي.
وكان هذا القول قولاً صحيحًا.
فقال: فقد أصبح ملك الدولة.
قلت: كلنا ملكها.
فلم ينج متاعي من ملك الدولة حتى استدعينا يعقوبا فأقنعه بأنني، أنا أيضًا، ملك الدولة. فحملت المتاع إلى بيتي الجديد وأنا غير مقتنع بأن الحارس كف شره عني. فكنت، كلما عسكر ليل، فطرق طارق بابي، أقوم مذعورًا وأنا أهجس بجاء الحارس ليضع اليد على متاعي.
فلما أشركتني شريكة حياتي، باقية الطنطورية، بسر كنزها، فأصبح سري الدفين، صار طرق ابن الجيران على الباب، ليدعونا إلى زفاف أخته، يلقينا من الفراش على أقدامنا مذعورين ونحن نتهامس: لقد علموا!
ولكنهم لم يعلموا.