الاثنين، 14 مايو 2007

(12)

كيف أنقذ الفجر الصادق سعيدًا من الضياع في دياميس عكا

وهكذا، يا محترم، تحولت عن طريق بيروت يسارًا، فدخلت في أزقة عكا، ودرت حول المسجد ‏حتى حارة الخرابة. فانقضى الفجر الكاذب واشتد سواد الليل. فأخذت أتلمس طريقي وأتعثر، حتى ‏رأيت ضوءًا في جهة البحر غربًا يغاضن بعينه مغاضنة متناسقة كأنما يستحثني إليه ويدعوني، ‏مثل عين أستاذ العربية اليسرى، المصابة بداء الغضن العصبي. فلما لحظتها أول مرة حسبته ‏يدعوني إلى اللوح. فقمت إلى اللوح. فصاح: عد إلى مكانك يا لوح! فعدت. فظلت عينه اليسرى ‏تغضن. فحسبت أنني فهمت مأربه. فلما تلا علينا النشيد: (فلسطين بلادي، هيا يا أولادي)، ‏وغضن بعينه اليسرى، ضحكت قبل أن يتم البيت. فتوقف مذهولاً.. فسمعت لهاث الطلبة ‏المذعورين. فنزل علي ضربًا بالمؤشر حتى تحطم. ثم حكم عليّ بأن أقعد بعد الدوام أنسخ قصيدة ‏امرئ القيس: ‏
سما لك شوق بعدما كان أقصرا
‏ وحلت سليمى بطن ظبي فعرعرا ‏
حتى البيتين: ‏
بكي صاحبي لما رأى الدرب دونه
‏ وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا ‏
فقلت له لا تبك عينك إنما
‏ نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا ‏
عشرين مرة! ‏
ومنذ ذلك الحين تحققت عاقبة الاستهزاء، فحمدت معلمي على ما أصاب عينه اليسرى من غضن ‏عصبي. وقلت في نفسي: مليح أن تحطم مؤشره على بدني. ‏
ولكنني أيقنت، وأنا أرقب الضوء المغضن، المنبعث من ناحية الغرب، أنه ليس عين معلمي ‏اليسرى. ذلك لأن أشباح المسجد كانت أخبرتني بأن معلمي هذا استشهد وهو ينقل متفجرات من ‏حيفا إلى عكا في الأسبوع نفسه الذي قضى فيه الجيش البريطاني على الثوار في موقع المصرارة ‏في القدس، وفي القسطل على طلعة القدس، قبل زحف الجيش العربي، بقيادة أبو حنيك، جلوب ‏باشا، على تلك المناطق من فلسطين التي تقرر إخلاؤها من العرب، رحمه الله. ‏
لذلك توجهت نحو الضوء المغضن وأنا متحقق أنها دعوة سماوية، حتى أشرفت على البحر، ‏فرأيت أن منارة عكا إلى يساري، هي التي كانت عينها تغضن، وتدعوني. ‏
فاستهواني هذا الضوء الذي لم ينطفئ، بعد أن انطفأت بقية الأضواء في عكا المحتشمة صبرًا. ‏
ورحت أتقدم في اتجاه المنارة على درب خاو، وقد هدأ البحر، وانكفأ الموج، سوى مداعبة هينة ‏مع سيقان الصخر الرابض أمام سور أحمد متأهبًا لالتقاط قبعة نابليونية أخرى. ‏
نعم، يا محترم. فإذا ما انفك الآدميون يربضون هذه الربضة، فكيف لا يفعلها صخر عكاء? ولقد ‏ظل العكيون يرددون، استخفافًا: يا خوف عكا من هدير البحر! حتى أثبت جيرانهم الحيافنة، وهم ‏يهرعون إليهم، عبر البحر المائج، أنهم أشد استخفافًا بالبحر منهم. ‏
حتى تناهى إليّ صوت فجائي دون ما مفاجأة، ينادي: ‏
يا سعيد، يا سعيد! فاستحوذني شعور الذي يسترق النظر من ثقب المفتاح على عذراء في خدرها. ‏فأردت أن أعود القهقرى استحياء لولا أنه عاد ونادي: هلم! ‏
قلت: ها أنا ذا ‏
قال: اقترب! ‏

فإذا بهيئة رجل طويل القامة، ينبثق مع الضوء من صخر المنارة، فينتشر مع ضوئها ويختفي ‏باختفائه، كأنما هو مغاضنة عين المنارة. وقد التف بعباءة زرقاء ذات زبد أبيض، مثل قنديل ‏البحر. وهو يتقدم نحوي وأنا أتقدم نحوه حتى التقينا في منتصف الفسحة بين بقية السور يمينًا ‏وبقية السور يسارًا على أرض حارة الفاخورة. ‏
فلم أر من وجهه سوى تجاعيد أشبه بصفحة البحر حين تلفحه نسمة شرقية. ‏
فألقى في روعي أن في التجاعيد جمالاً مثلما يكون الجمال في نضارة الصبا. ولولا رهبة الحلكة ‏لأكببت عليه ألثم خده. ‏
وسوى عينين واسعتين، غؤورين، على حور أنيس، يعمق غورهما كلما اكتنفهما الظلام، ثم ‏تطفوان كلما انعكس الضوء عليهما، كأنما الحدثان، الليل والنهار، يتعاقبان فيهما في لحظة ‏متكررة. ‏
وسوى جبين عريض سرعان ما تحققت أن ما يختفي عني منه أعرض مما طاق بصري أن ‏يلحظه لأول وهلة. وفيما بعد، حين وقفت أول مرة في حياتي أمام ناطحة سحاب، وأنا لاه، ‏فانتبهت على أنني أصعد البصر في بناء شامخ فلا أرى، للوهلة الأولى، جميع علوه الشامخ، ‏تذكرت جبين شيخ المنارة. ‏
فمد يده إليّ. فصافحتها. فشعرت بالراحة. فلم أسحب راحتي. وقلت في نفسي: إن في راحته ‏لأسرارًا. ‏
قال: ألم تكن تبحث عني? ‏
قلت: طول العمر يا ذا المهابة. فهل جئتم? ‏
قال: نحن هنا، نحن هنا، حتى تجيئوا إلينا. ‏
قلت، وما زالت راحتي في راحته: كنت حسبت أن المصافحة شيمة همجية.‏
فتبسم حتى صفت صفحة خده من تجاعيد البحر، ثم قال: ونحن حسبنا أنكم، لما أخذتم هذه ‏الخصلة، عبرتم على نصف الطريق إلينا. إن أول إنسان صفق كفا بكف استحسانًا نقشنا اسمه ‏على لوحة الخالدين من قبل سلامة وبتهوفن وسيد درويش. ونراه نبيكم الأول. ويخجلنا أن أكثركم ‏ما زال يبخل على فنان، أو على حادي ركب، بهذا الثمن. اثنان من أهل الأرض صدرنا بهما ‏لوحتنا: أول من أشعل نارًا، وأول من صافح أخاه. وكانا أول من تصافح. أبق راحتك في راحتي ‏واسترح! ‏
ففعلت. ‏
قال: فماذا تريد يا سعيد? ‏
فهتفت: أن تخلصني. ‏
قال: ممن? فسحبت كفي من كفه فزعا. وحبست لساني قبل أن يزل فيما لا تحمد عقباه. كان أبي ‏رحمه الله، قد علمنا أن الناس يأكلون الناس، فحاش أن نثق بمن حولنا من الناس. إنما علينا أن ‏نسيء الظن بكل الناس، حتى ولو كانوا إخوتك من بطن أمك ومن ظهر أبيك. فإذا لم يأكلوك، فقد ‏كانوا يستطيعون أن يأكلوك. ووالدي، رحمه الله، ظل يأكل الناس حتى أكلوه. ‏
فأمسكت لساني، حرصًا، وقلت في نفسي: يكون الحاكم العسكري أرسله ليختبرني? وقلت: شكرًا ‏يا ذا المهابة، فأنا أكاد ألاّ أعرفك. وهنأت نفسي على هذه اليقظة. ‏
قال: اتبعني! ‏
فقلت في نفسي: يكون لا يزال يختبرني? فتبعته. ‏

فدخل بي تحت قنطرة إلى يمين السجن. فساحة مسجد الرمل. ثم دار بي حول جامع الجزار.. فإذا ‏بقبو غصنا فيه، فإذا نحن في دياميس عكا، وقد جعل نور عينيه كشافًا أمامنا. ‏
حتى دخلنا في بهو رحب، رطب، قد انكفأت أجنابه عن مصاطب افترشنا إحداها. ‏
فقال: كان من سبقكم يبني فوق من سبقهم، حتى جاء جيل الأثريين، يحفرون من تحت ويهدمون ‏من فوق. فإذا سرتم على هذا المنوال ستبلغون الدناصير ‏
قلت: فما هذا المكان يا ذا المهابة? ‏
قال: هذا بهو التجار من جنوا. وفيه كانوا يبيتون، ويتقايضون، ويتقمرون، ويتقامرون، ويلدون، ‏ويولدون، ويُدْفنون ويَدْفِنون. ‏
قلت: فلماذا أثخنوا الأرض بهذه الدياميس، يا ذا المهابة? ‏
قال: ليستشروا وليكفوا شر الأهالي، فوق، عنهم. ‏
قلت: ولكن الدياميس لم تنقذهم. ‏
قال: ولكنهم لم يحسبوا ذلك. ‏
قلت: ما اسمك يا ذا المهابة? ‏
فرمقني بعينين رأيت في سوادهما الواسع سعيدين ينظران إلىّ في تعجب: سعيدًا ملحاحًا، وسعيدًا ‏خائفًا. ‏
ثم قال وهو يبتسم: عندكم يخرج الإنسان على الناس باسمه. أما نحن، عندكم، فأنتم الذين تطلقون ‏علينا الأسماء التي تستريحون عليها. سمّني المهدي، الذي استراح أجدادك عليه، أو الإمام، أو ‏المنقذ. ‏
فقال أحد السعيدين، وكان السعيد الآخر ينكمش ويتضاءل: فأنقذنا، يا ذا المهابة! ‏
فحدجني بنظره حتى تكسرت أمواج الغضب على السعيدين في عينيه فتلاشيا، ثم قال: هذا شأنكم، ‏هذا شأنكم! حين لا تطيقون احتمال واقعكم التعس ولا تطيقون دفع الثمن اللازم لتغييره، لأنكم ‏تعلمون أنه باهظ، تلتجئون إليّ. إنني أنظر إلى ما يفعله الناس الآخرون، وما يبذلونه، ولا ‏يسمحون لأحد بأن يحشرهم في ديماس من هذه الدياميس، فأغضب عليكم. ماذا ينقصكم? هل بينكم ‏من تنقصه حياة حتى لا يقدمها، أو ينقصه موت حتى يخاف على حياته? ‏
وكنت أستمع إليه وأنا مبهور النفس. واحْلَوْلَك الديماس في عيني. وتذكرت فجري الموعود في ‏مدينتي حيفا الحبيبة. فاشتدت عليّ الهواجس. ‏
فقلت: غدًا أعود إلى مدينتي حيفا، يا ذا المهابة.. وأحيا فيها، فانصحني. ‏
فهدأ اضطرابه. وقال: لن تجديك نصيحتي. إلاّ أنني سمعت في بلاد فارس حكاية عن فأس ليس ‏فيها عود ألقيت بين الشجر. فقال الشجر لبعض: ما ألقيت هذه ها هنا لخير! فقالت شجرة عادية: ‏إن لم يدخل في إست هذه عود منكن فلا تخفنها. *‏
اذهب، فهذه الحكاية لا تصلح للعود. ‏
‏- فهل أستطيع، يا ذا المهابة أن ألقاك مرة ثانية? ‏
‏- متى شئت، تعال إلى هذه الدياميس. ‏
‏- في أية ساعة، يا ذا المهابة? ‏
‏- حين تخور. ‏
‏- متى? ‏

ولكنه كان قد اختفى. فبقيت وحدي أتخلل في الدياميس، وأهيم في ديماس حتى أتعثر بآخر، إلى ‏أن شق الفجر الصادق بطن الأرض فألفيتني في باحة المسجد أتمطى وأتثاءب. ‏

(11)

كيف لم يمُتْ سعيد شهيدًا في وادٍ على الحدود اللبنانية

فلما كنت مطمئنًا على قدري، ومتحققًا أن الأسوأ لن يصيبني، هبطت الهوينا درجات الباب ‏الشمالي، فملأت طاسة ماء من سبيل الطاسات، فارتويت وترحمت على أحمد الجزار. ثم ‏سرت في سبيلي. ‏
فإذا أمامي الطريق العريض حيث المسار شمالاً، إلى رأس الناقورة، فلبنان. فخفضت رأسي ‏خجلاً من غزالة. وتحولت عنه. ‏

كنا ثلاثة شبان زملاء صف واحد. فقررنا في نهاية الإضراب الكبير (1939) أن نعبر ‏الحدود إلى لبنان فنزور دار القيادة في بيروت نطلب سلاحًا. ‏
فركبنا سيارة الأجرة حتى قبيل رأس الناقورة. ثم انحرفنا يمينًا سيرًا على الأقدام بين كروم ‏العنب. فهبطنا واديًا عميقًا، فأظلمت السماء. فلما أخذنا نصعد على كتفه المقابل، أنهكنا التعب ‏وألهبنا العطش. فاستحثني الآخران، فبكيت. فخلفاني وراءهما بعدما خيراني بين الاستمرار ‏في الصعود أو أن أموت شهيدًا. فاخترت الأمر الأول. ولم ألحق بهما إلاّ بعد أن كانا قد ‏ارتويا من قطوف الدوالي الدانية. فرحت أروي غليلي، فلم ينتظراني. ‏
وإذا بفتاة في مثل عمري، تنادي والدها: هذا شاب مجاهد من فلسطين. فيجيبها الفلاح من ‏بعيد: اسقيه وأطعميه. فنتجاذب أطراف الحديث. فأقع في حبها. فتقول إن اسمها غزالة، وإنني ‏غزالها. فقد كنت خلب بنات. ‏
فأعدها بأن أعود إليها بعد أسبوع، ومعي السلاح والذخيرة، فألتقيها تحت هذه الدالية. ‏
فقالت إنها ستخبر والدها بالأمر، فلن يمانع بأن يخطبها شاب حلو من فلسطين. ‏
فأنحني عليها كي أقبلها. فتنفر غزالة ضاحكة وهي تقول: عد أولاً من بيروت. فلا أتبين سبب ‏صدها. ولكنني أسرع كي ألحق برفيقي. ‏
فأراهما أمامي على طريق الأسفلت تحيط بهما جماعة من شرطة الحدود اللبنانية. فقلت في ‏نفسي: مليح أنني تأخرت عنهما، وأنني علقت غزالة. ‏
فرأيت رجال الشرطة وهم ينحرفون بهما عن طريق الأسفلت، يسارًا، وينزلون بهما إلى ‏معسكر على الشاطئ، فيغيبون فيه. ‏
فسرت في الطريق نفسها مبتعدًا عنهم. فلم يلحظوني. قلت: نجوت. ولكن، أين أسير? لا مال ‏عندي ولا عنوان. فكيف أتدبر أمري في بيروت?‏
قلت في نفسي: هذا أسوأ من الحبس. فعلي أن أعود إليهما، فالحبس أقل سوءًا. ‏
فعدت إليهم. فسألني ضابطهم: ومن أنت? قلت: ثالثهم. قال: فلماذا سلمتنا نفسك? قلت: لا مال ‏ولا عنوان. ‏
‏- فأين مالكم? ‏
قلنا: لدى كبيرنا. ‏
وكنا جمعنا لديه عشرين جنيهًا، مالاً صامتًا، أخذ العسكر نصفه وشتمونا. وأما النصف الآخر ‏فأبقوه مع كبيرنا، فأنفقناه فيما وراء البنك في بيروت. وعدنا على الطريق نفسها. ولكننا لم ‏نحد عنها نحو كروم الدوالي، فقد كان الضابط اكتفى بالجنيهات العشرة ذهابًا وإيابًا. فلما التقانا ‏عائدين حيانا وسأل: أين السلاح أيها المجاهدون? أجاب كبيرنا: سلاحنا العلم، وما معنا شروى ‏نقير. فلم يشأ الضابط أن يقتسمها. بل صفع كبيرنا على قفاه وصاح: اعبروا! فطرنا هاربين ‏نحو حدودنا، وكبيرنا يقول: العلم بالشيء ولا الجهل به. ‏
فقلت: مليح أن صار هكذا، ولم يصر غير شكل. فصفعاني. فبكيت. ‏
ولكنني كنت أبكي على غزالة التي ضاع غزالها في بيروت. وتبينت سبب صدها. ‏
وبقيت، وأنا في صور فيما بعد لاجئًا، أتوق إلى زيارة الدالية على الحدود، حتى سمعت ‏الدكتور عشيق أختي، يومًا يقول: أصبح الفلسطينيون لاجئين تنفر البنات منهم. فتحولت نحو ‏اللاجئات. فاللاجئات للاجئين. فوجدتهن، على غير حالتنا، مشتهيات. فانشغلن عنا. فعدت إلى ‏دولة إسرائيل وأنا عطشان. ‏