(12)
كيف أنقذ الفجر الصادق سعيدًا من الضياع في دياميس عكا
وهكذا، يا محترم، تحولت عن طريق بيروت يسارًا، فدخلت في أزقة عكا، ودرت حول المسجد حتى حارة الخرابة. فانقضى الفجر الكاذب واشتد سواد الليل. فأخذت أتلمس طريقي وأتعثر، حتى رأيت ضوءًا في جهة البحر غربًا يغاضن بعينه مغاضنة متناسقة كأنما يستحثني إليه ويدعوني، مثل عين أستاذ العربية اليسرى، المصابة بداء الغضن العصبي. فلما لحظتها أول مرة حسبته يدعوني إلى اللوح. فقمت إلى اللوح. فصاح: عد إلى مكانك يا لوح! فعدت. فظلت عينه اليسرى تغضن. فحسبت أنني فهمت مأربه. فلما تلا علينا النشيد: (فلسطين بلادي، هيا يا أولادي)، وغضن بعينه اليسرى، ضحكت قبل أن يتم البيت. فتوقف مذهولاً.. فسمعت لهاث الطلبة المذعورين. فنزل علي ضربًا بالمؤشر حتى تحطم. ثم حكم عليّ بأن أقعد بعد الدوام أنسخ قصيدة امرئ القيس:
سما لك شوق بعدما كان أقصرا
وحلت سليمى بطن ظبي فعرعرا
حتى البيتين:
بكي صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما
نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا
عشرين مرة!
ومنذ ذلك الحين تحققت عاقبة الاستهزاء، فحمدت معلمي على ما أصاب عينه اليسرى من غضن عصبي. وقلت في نفسي: مليح أن تحطم مؤشره على بدني.
ولكنني أيقنت، وأنا أرقب الضوء المغضن، المنبعث من ناحية الغرب، أنه ليس عين معلمي اليسرى. ذلك لأن أشباح المسجد كانت أخبرتني بأن معلمي هذا استشهد وهو ينقل متفجرات من حيفا إلى عكا في الأسبوع نفسه الذي قضى فيه الجيش البريطاني على الثوار في موقع المصرارة في القدس، وفي القسطل على طلعة القدس، قبل زحف الجيش العربي، بقيادة أبو حنيك، جلوب باشا، على تلك المناطق من فلسطين التي تقرر إخلاؤها من العرب، رحمه الله.
لذلك توجهت نحو الضوء المغضن وأنا متحقق أنها دعوة سماوية، حتى أشرفت على البحر، فرأيت أن منارة عكا إلى يساري، هي التي كانت عينها تغضن، وتدعوني.
فاستهواني هذا الضوء الذي لم ينطفئ، بعد أن انطفأت بقية الأضواء في عكا المحتشمة صبرًا.
ورحت أتقدم في اتجاه المنارة على درب خاو، وقد هدأ البحر، وانكفأ الموج، سوى مداعبة هينة مع سيقان الصخر الرابض أمام سور أحمد متأهبًا لالتقاط قبعة نابليونية أخرى.
نعم، يا محترم. فإذا ما انفك الآدميون يربضون هذه الربضة، فكيف لا يفعلها صخر عكاء? ولقد ظل العكيون يرددون، استخفافًا: يا خوف عكا من هدير البحر! حتى أثبت جيرانهم الحيافنة، وهم يهرعون إليهم، عبر البحر المائج، أنهم أشد استخفافًا بالبحر منهم.
حتى تناهى إليّ صوت فجائي دون ما مفاجأة، ينادي:
يا سعيد، يا سعيد! فاستحوذني شعور الذي يسترق النظر من ثقب المفتاح على عذراء في خدرها. فأردت أن أعود القهقرى استحياء لولا أنه عاد ونادي: هلم!
قلت: ها أنا ذا
قال: اقترب!
فإذا بهيئة رجل طويل القامة، ينبثق مع الضوء من صخر المنارة، فينتشر مع ضوئها ويختفي باختفائه، كأنما هو مغاضنة عين المنارة. وقد التف بعباءة زرقاء ذات زبد أبيض، مثل قنديل البحر. وهو يتقدم نحوي وأنا أتقدم نحوه حتى التقينا في منتصف الفسحة بين بقية السور يمينًا وبقية السور يسارًا على أرض حارة الفاخورة.
فلم أر من وجهه سوى تجاعيد أشبه بصفحة البحر حين تلفحه نسمة شرقية.
فألقى في روعي أن في التجاعيد جمالاً مثلما يكون الجمال في نضارة الصبا. ولولا رهبة الحلكة لأكببت عليه ألثم خده.
وسوى عينين واسعتين، غؤورين، على حور أنيس، يعمق غورهما كلما اكتنفهما الظلام، ثم تطفوان كلما انعكس الضوء عليهما، كأنما الحدثان، الليل والنهار، يتعاقبان فيهما في لحظة متكررة.
وسوى جبين عريض سرعان ما تحققت أن ما يختفي عني منه أعرض مما طاق بصري أن يلحظه لأول وهلة. وفيما بعد، حين وقفت أول مرة في حياتي أمام ناطحة سحاب، وأنا لاه، فانتبهت على أنني أصعد البصر في بناء شامخ فلا أرى، للوهلة الأولى، جميع علوه الشامخ، تذكرت جبين شيخ المنارة.
فمد يده إليّ. فصافحتها. فشعرت بالراحة. فلم أسحب راحتي. وقلت في نفسي: إن في راحته لأسرارًا.
قال: ألم تكن تبحث عني?
قلت: طول العمر يا ذا المهابة. فهل جئتم?
قال: نحن هنا، نحن هنا، حتى تجيئوا إلينا.
قلت، وما زالت راحتي في راحته: كنت حسبت أن المصافحة شيمة همجية.
فتبسم حتى صفت صفحة خده من تجاعيد البحر، ثم قال: ونحن حسبنا أنكم، لما أخذتم هذه الخصلة، عبرتم على نصف الطريق إلينا. إن أول إنسان صفق كفا بكف استحسانًا نقشنا اسمه على لوحة الخالدين من قبل سلامة وبتهوفن وسيد درويش. ونراه نبيكم الأول. ويخجلنا أن أكثركم ما زال يبخل على فنان، أو على حادي ركب، بهذا الثمن. اثنان من أهل الأرض صدرنا بهما لوحتنا: أول من أشعل نارًا، وأول من صافح أخاه. وكانا أول من تصافح. أبق راحتك في راحتي واسترح!
ففعلت.
قال: فماذا تريد يا سعيد?
فهتفت: أن تخلصني.
قال: ممن? فسحبت كفي من كفه فزعا. وحبست لساني قبل أن يزل فيما لا تحمد عقباه. كان أبي رحمه الله، قد علمنا أن الناس يأكلون الناس، فحاش أن نثق بمن حولنا من الناس. إنما علينا أن نسيء الظن بكل الناس، حتى ولو كانوا إخوتك من بطن أمك ومن ظهر أبيك. فإذا لم يأكلوك، فقد كانوا يستطيعون أن يأكلوك. ووالدي، رحمه الله، ظل يأكل الناس حتى أكلوه.
فأمسكت لساني، حرصًا، وقلت في نفسي: يكون الحاكم العسكري أرسله ليختبرني? وقلت: شكرًا يا ذا المهابة، فأنا أكاد ألاّ أعرفك. وهنأت نفسي على هذه اليقظة.
قال: اتبعني!
فقلت في نفسي: يكون لا يزال يختبرني? فتبعته.
فدخل بي تحت قنطرة إلى يمين السجن. فساحة مسجد الرمل. ثم دار بي حول جامع الجزار.. فإذا بقبو غصنا فيه، فإذا نحن في دياميس عكا، وقد جعل نور عينيه كشافًا أمامنا.
حتى دخلنا في بهو رحب، رطب، قد انكفأت أجنابه عن مصاطب افترشنا إحداها.
فقال: كان من سبقكم يبني فوق من سبقهم، حتى جاء جيل الأثريين، يحفرون من تحت ويهدمون من فوق. فإذا سرتم على هذا المنوال ستبلغون الدناصير
قلت: فما هذا المكان يا ذا المهابة?
قال: هذا بهو التجار من جنوا. وفيه كانوا يبيتون، ويتقايضون، ويتقمرون، ويتقامرون، ويلدون، ويولدون، ويُدْفنون ويَدْفِنون.
قلت: فلماذا أثخنوا الأرض بهذه الدياميس، يا ذا المهابة?
قال: ليستشروا وليكفوا شر الأهالي، فوق، عنهم.
قلت: ولكن الدياميس لم تنقذهم.
قال: ولكنهم لم يحسبوا ذلك.
قلت: ما اسمك يا ذا المهابة?
فرمقني بعينين رأيت في سوادهما الواسع سعيدين ينظران إلىّ في تعجب: سعيدًا ملحاحًا، وسعيدًا خائفًا.
ثم قال وهو يبتسم: عندكم يخرج الإنسان على الناس باسمه. أما نحن، عندكم، فأنتم الذين تطلقون علينا الأسماء التي تستريحون عليها. سمّني المهدي، الذي استراح أجدادك عليه، أو الإمام، أو المنقذ.
فقال أحد السعيدين، وكان السعيد الآخر ينكمش ويتضاءل: فأنقذنا، يا ذا المهابة!
فحدجني بنظره حتى تكسرت أمواج الغضب على السعيدين في عينيه فتلاشيا، ثم قال: هذا شأنكم، هذا شأنكم! حين لا تطيقون احتمال واقعكم التعس ولا تطيقون دفع الثمن اللازم لتغييره، لأنكم تعلمون أنه باهظ، تلتجئون إليّ. إنني أنظر إلى ما يفعله الناس الآخرون، وما يبذلونه، ولا يسمحون لأحد بأن يحشرهم في ديماس من هذه الدياميس، فأغضب عليكم. ماذا ينقصكم? هل بينكم من تنقصه حياة حتى لا يقدمها، أو ينقصه موت حتى يخاف على حياته?
وكنت أستمع إليه وأنا مبهور النفس. واحْلَوْلَك الديماس في عيني. وتذكرت فجري الموعود في مدينتي حيفا الحبيبة. فاشتدت عليّ الهواجس.
فقلت: غدًا أعود إلى مدينتي حيفا، يا ذا المهابة.. وأحيا فيها، فانصحني.
فهدأ اضطرابه. وقال: لن تجديك نصيحتي. إلاّ أنني سمعت في بلاد فارس حكاية عن فأس ليس فيها عود ألقيت بين الشجر. فقال الشجر لبعض: ما ألقيت هذه ها هنا لخير! فقالت شجرة عادية: إن لم يدخل في إست هذه عود منكن فلا تخفنها. *
اذهب، فهذه الحكاية لا تصلح للعود.
- فهل أستطيع، يا ذا المهابة أن ألقاك مرة ثانية?
- متى شئت، تعال إلى هذه الدياميس.
- في أية ساعة، يا ذا المهابة?
- حين تخور.
- متى?
ولكنه كان قد اختفى. فبقيت وحدي أتخلل في الدياميس، وأهيم في ديماس حتى أتعثر بآخر، إلى أن شق الفجر الصادق بطن الأرض فألفيتني في باحة المسجد أتمطى وأتثاءب.