الجمعة، 30 مايو 2008

10-حكاية السمكة الذهبية

فمنذ أن أصبح سر باقية سري، أصبحت الحذر مجسمًا يمشي على اثنتين. فلما أدركت أن الحذر هو من ذوات الأربع، رحت أمشي على أربع.
فلما أنجبت باقية طفلنا البكر، فأرادت أن تسميه باسم والدها النازح (فتحي)، فرفع الرجل الكبير، ذو القامة القصيرة، حاجبيه فوق المكتب تساؤلاً، سميناه (ولاء). ولما أدركت أن تحديد النسل هو من مقومات الولاء لم ننجب غيره. وكنت، كلما أثقل السر عليّ، أطلق لساني بإعلان الولاء في محله أو في غير محله. وكنت أعتبر نفسي باطنيًا حتى أرسلونا في وفد إلى أوروبا وحملونا قبعات (تمبل) لنهديها إلى إخواننا اليهود هناك، مع أحاديث اللبن والعسل وتزويج العوانس وإشفاء السرطان، فأهديتهم قميصي وبنطلوني وثيابي الباطنية. ولم أحتفظ إلاّ بسري الدفين.
وطول هذا الوقت كنت أختلي بباقية تغمغم همسًا بأحسن الطرق إلى انتشال الصندوق. حتى تواضعنا على كلام غريب لا يفهمه سوانا.
وكنت كلما وقفت أمام زملائي في الصنعة، فدهمني التفكير بالسر وشعرت به يحاول أن يقفز من عيني، أغمضهما حتى لا يقفز. حتى لبستني هذه الآفة، فصارت جفوني ترفّ، أغمضهما وأفتحهما. فقالوا: بالوراثة. فقلت: هذا جناه عليّ جدي لأبي. رحمهما الله. وما كنت كاذبًا.
ولما كان أكثر كلامنا أن في العجلة الندامة وفي التأني السلامة، فقد ظل (ولاء) يحبو متأنيًا حتى بلغ الرابعة من عمره. فاصطحبته إلى شاطئ الطنطورة إمعانًا في التعمية. وشجعته على صيد السمك.
وكنت، أجلسه على صخرة في لسان البحر. فيرسل خيطه. فأخلع ثيابي وأنزل البحر طالبًا منه أن يناديني إذا أقبل مقبل. ثم أسبح بعيدًا نحو الجزيرة القفراء الصغيرة، في عرض البحر أمام خرائب الطنطورة. فأغوص ما وسعني الغوص في كهف معتم تحت الصخر، في المكان الذي أرشدتني إليه باقية، فلا أجد سوى سمك يفر أو طحالب لاصقة. ولم أجرؤ على المضي بعيدًا في الكهف.
حتى أسمع بكاء ولدي ولاء، وقد استوحش. أو أسمع نداءه. فأخرج إلى السطح فأرى عاشقين يتعانقان على الشاطئ. فأعود أدراجي، ويمضيان في ذلك.
وكان ولاء يلح عليّ سائلاً: عمَّ تبحث يا أبي?

فأجيبه: عن السمكة الذهبية.
وأحكي له ما علق في ذهني من حكايات ألف ليلة وليلة. وأسرح به مع خيالي الباحث عن الكنز الذهبي منذ جدنا الأكبر، أبجر بن أبجر.
- فهل ستجدها يا أبي?
- إذا ثابرت على الغوص، ولم تفش السر، فسوف نجدها.
- فهل وجدها آخرون، يا أبي?
- لا بد أن يكون آخرون وجدوا سمكاتهم الذهبية.
- فإذا وجدناها، ماذا سنفعل بها، يا أبي?
- مثلما فعل بها الآخرون.
- فماذا فعل بها الآخرون، يا أبي?
- لم يطلعوني على سرهم.
فكان ينصرف إلى ما هو فيه من لهو أو من صيد. أو كان يعلن أنه يرغب في العودة إلى البيت. فنعود.
وما كنت أعلم أنه يعود لكي يختلي بوالدته. حتى أقبل يوم اقتعدنا فيه هذه القعدة على شاطئ الطنطورة فإذا به يفاجئني بالسؤال:
- لماذا، يا أبي، تخاف من أن يراك الناس وأنت تبحث عن السمكة الذهبية?
- حتى لا يسبقوني إليها.
- فإذا وجدتها، يا أبي، وعلمت الحكومة بالأمر، هل ستأخذها منا كما أخذت الطنطورة من جدتي ومن جدي?
- من أدخل هذه الأفكار إلى رأسك، يا ولد?
- ماما?
وفي تلك الليلة بقينا نتشاجر همسًا، باقية وأنا، كي أقنعها بأن تبقي الكنز سرًا عن ثالثنا، وأن نعلمه أن لا يفرط في كلامه، وأن يحبس لسانه، وأن يحذر الحذر كله، وألا يتكلم في هذه الأمور إلاّ همسًا، حتى طلع الفجر.
فما انتبهنا إلاّ وهو يدخل علينا، يمشي على رؤوس أصابعه، ويضع سبابته النحيلة على شفتيه المزمومتين، وهو يهمس:
- جاءت اللبانة!

ليست هناك تعليقات: