الثلاثاء، 27 مايو 2008

9-حكاية الثريّا التي رجعت تسفّ الثري

وبعد عشرين عامًا، لما قرأت عن كنز العجوز اللداوية ثريا عبد القادر مقبول، كيف أضاعته لسلامة طويتها، أي لسذاجتها، أيقنت أنني أحسنت صنعًا لما لم أبق عنصرًا من عناصر الخطر والفجاءة إلاّ حسبت حسابه، واحتطت له حيطة شديدة، حتى بقي سري دفينًا ما كشفت عنه إلاّ الآن، ولك يا محترم.
ففي العاشر من أيلول، من العام الخامس ب. ح ، الموافق عام 1971م روت صحيفتكم الاتحاد، عن معاريب، عن هآرتس، عن الشرطة الإسرائيلية العامة، عن شرطة اللد الإسرائيلية، أن السيدة العجوز ثريا عبد القادر مقبول، السن خمسة وسبعون عامًا، عادت من الأردن إلى بلدها ومسقط رأسها، مدينة اللد، بموجب نظام العطلة الصيفية عبر الجسور المفتوحة. وذلك بعد أن ظلت بعيدة عن بلدها ثلاثة وعشرين عامًا لاجئة في عمان مع زوجها وأولادها.
عاشت في عمان مع زوجها وطفلها وأبي عمرة الذي رحمها فلم تنجب منه أطفالاً. حتى شب ولداها، فسعيا إلى الكويت في طلب الرزق. فعادا بحفنة نفط أحمر، شيدا بها بيتًا في عمان، شيعا منه والدهما إلى مقره الأخير. ثم أقبل أيلول الأسود، عام 1970، على صورة دبابة هاشمية نقية تقية من طراز شيرمان، هدمته فلم يخرج من تحت الأنقاض سالمًا سوى الثريا وطويتها السليمة.
فلما وقفت ثريا عبد القادر مقبول بين الأنقاض في صحراء الغربة القاحلة، تذكرت عزها الدارس في فردوسها المفقود، في بيتها العامر في اللد. وكانت خبأت مفتاحه في نقره في الجدار. وكانت جمعت مصوغاتها في صفائح دفنتها في ذلك الجدار. وكانت توكلت ونزحت مع النازحين عام 1948، وهي تؤكد لنفسها: غدًا أعود.
فلما أقبل هذا الغد، بعد ثلاثة وعشرين عامًا، أزمعت أمرها. وفي الصيف عبرت الجسر المفتوح. فضيعت اللبن.
ولما أرادت أن تدخل بيتها القديم في اللد لتنتشل كنزها، أغلقت وريثتها الشرعية، من عهد نوح، الباب في وجهها. فلم تفاجأ حيث إن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة.
فنصحها ذوو القربى، المقيمون في إسرائيل، أن تلتجئ إلى قبضة الأمن وعسس النظام، أي إلى الشرطة الإسرائيلية. فعملت بالنصيحة. فأرسلوا معها رجل شرطة ورجلاً قيمًا على أراضي إسرائيل. فلم يشاؤوا أن يقلقوا راحة الوريثة الشرعية، فأتوا منزل العجوز من خلف جداره، في منزل يقيم فيه ذوو قربى. فأحسنوا وفادتها. فأشارت إلى مكان في الجدار، فحفروا عميقًا. فوجدوا صفائح المصوغات. ثم أشارت إلى مكان آخر. فحفروا. فوجدوا المفتاح. فهللوا وكبروا واغرورقت عيون الجمع. ومسح الشرطي دموع رجل القيم بمنديله. فقوم القيم إنسانية رجل الشرطة تقويمًا عاليًا، فمسح دموعه بمنديله. وتعانق العرب واليهود. وتعايشا بدموع الفرحة والامتنان والإنسانية. فأبلغوا رجال الصحف. فنشروا الخبر. وأذاعته الإذاعة. وكم من معلمة في روضة أطفال، في تلك الأيام المشهودة، روت هذه الحكاية على أطفال الروضة، عن شرطة إسرائيل التي تبحث عن كنوز الأمهات الثكالى العربيات وتبحث عن الأطفال اليهود الضائعين، ولا يغمض لها جفن.
ولكن، حين مدت الأم الثكلى (الثريا)، يدها لتطول مصوغات عرسها، ناولها رجل القيم على أراضي إسرائيل (شهادة بالذهب، وأخذ الذهب وذهب. وأما الثريا فأخذت (شهادة الذهب) وذهبت، عبر الجسور المفتوحة، راجعة لتسف الثرى في مخيم الوحدات ولتدعو بطول البقاء لذوي القربى ولأولاد عمهم.
أما أنا فقد علمتني التجارب ألاّ أحسن النية، وأن أبقي الطوية مطوية، علمًا بأن بطاقة اتحاد عمال فلسطين لا تنفعني إلاّ حين لا أنفع غيري، أو أن يعود النفع على الرجل الكبير، ذي القامة القصيرة، الذي لا ينفع أحدًا.
فلما نقلت متاعي من بيت إلى بيت أصلح للزوجية، من وادي النسناس في حيفا الذي لا يصلح لعشار البهائم، إلى شارع الجبل، ودفعت ثمن المفتاحية، أو خلو الرجل، حتى لم يبق معي ما أستأجر به دابة لنقل متاعي، فنقلتها راجلاً، إذا بسيارة تقف فجأة أمامي. فينزل منها تأبط شرًا. فيستل من تحت إبطه قلما وورقة ويقول:
- نحن (وهو وحده!) من الحارس على أملاك العدو.
فاستللت بطاقة اتحاد عمال فلسطين من جيب المؤخرة، وهتفت: نحن معكم!
قال: لا، لا. أريد شهادة تثبت أن هذا المتاع هو متاعك، ولم تسرقه.

فأسقط في يدي. فأعدت البطاقة إلى جيب المؤخرة. فأسقط في المؤخرة: متى حفظ الناس شهادات تثبت أن متاع بيتهم هو متاع بيتهم ولم يسرقوه? فخفت على بنطلوني.
قال: لا، لا. هذا متاع بيت عربي.
وكان هذا القول قولاً صحيحًا.
فقال: فقد أصبح ملك الدولة.
قلت: كلنا ملكها.
فلم ينج متاعي من ملك الدولة حتى استدعينا يعقوبا فأقنعه بأنني، أنا أيضًا، ملك الدولة. فحملت المتاع إلى بيتي الجديد وأنا غير مقتنع بأن الحارس كف شره عني. فكنت، كلما عسكر ليل، فطرق طارق بابي، أقوم مذعورًا وأنا أهجس بجاء الحارس ليضع اليد على متاعي.
فلما أشركتني شريكة حياتي، باقية الطنطورية، بسر كنزها، فأصبح سري الدفين، صار طرق ابن الجيران على الباب، ليدعونا إلى زفاف أخته، يلقينا من الفراش على أقدامنا مذعورين ونحن نتهامس: لقد علموا!
ولكنهم لم يعلموا.

ليست هناك تعليقات: