السبت، 31 مايو 2008

11-بحث عجيب في الخيال الشرقي وفوائده الجمّة

لا لا، يا معلم. ليست حكاية السمكة الذهبية. وليست غيرها من حكايات ألف ليلة وليلة، هي السبب في ضياع ولدي، وحيدي، ولاء. فلو انطلق هذا الخيال الشرقي المكبوت، الذي تنفس بألف ليلة وليلة، لعانق النيرين.
ما قولك بالفلاح المسكين، الذي خاف على عروسه من كلام الناس، فوضعها في صندوق حمله فوق ظهره وقام يحرث أرضه وهي فوق ظهره يومًا يومًا.
فلما التقاه الأمير بدر الزمان، فسأله عن سبب هذا الصندوق محمولاً فوق ظهره، فأخبره، فأراد الأمير أن يرى بعينيه، فأنزله وفتحه، فإذا بعروسه مضطجعة، في الصندوق فوق ظهر زوجها، مع الشاب علاء الدين، أليس في الأمر عبرة يعتبرها مصدقو النهاشات في الأعراض، المحمولات، صونًا، على ظهور رجالهن في صناديق?

ولولا هذا الخيال الشرقي هل استطاع عربك، يا معلم، أن يعيشوا في هذه البلاد يومًا واحدًا? فأنت، في كل سنة في عيد الاستقلال، ترى العرب يرفعون أعلام الدولة ابتهاجًا، أسبوعًا قبل العيد وأسبوعًا بعد العيد. وتتزين الناصرة بأكثر مما تتزين تل أبيب من أعلام خافقات. وفي وادي النسناس، بحيفا، حيث تآخي العرب واليهود الفقراء، يعرف بيت العربي من بيت جاره اليهودي بأعلام الدولة الخفاقة فوق بيت العربي فحسب. أما بيت اليهودي فحسبه أنه يهودي. وكذلك السيارات في عيد الاستقلال، تعرف قومية صاحبها بأعلامها الخفاقة. فلما سألت أحد أبناء قومي عن السر في هذا الأمر، أجاب: خيال يا أخ! هؤلاء أوروبيون خيالهم باهت، فنرفع الأعلام حتى يروا بعيونهم.
قلت: فلماذا لا يرفعون الأعلام هم أيضًا?
قال: خيال، أيضًا، يا أخ! هم يعرفون أن خيالنا شرقي، نفاذ، نرى به ما لا يرى. فنرى الأعلام وهي مطوية في الصدور. ألم يحاول المرحوم أشكول أن يحول الحكم العسكري إلى شيء يرى ولا يرى، فرأيناه، على الرغم من ذلك، في أوامر الإقامة الجبرية وفي أخاديد الجروح في خدودنا? خيال، يا محترم.
والشاب العربي، الذي صدم بسيارته سيارة أخرى في شارع ليلينبلوم في تل أبيب، ما كان ينقذه سوى خياله الشرقي? نزل من سيارته وهو يصرخ: عربي، عربي! فتلهى الناس بضرب الضحية حتى ولّى أخونا الأدبار.
والندل شلومو، في أفخم فنادق تل أبيب، أليس هو سليمان ابن منيرة، ابن حارتنا? ودودي، أليس هو محمود? وموشى، أليس هو موسى بن عبد المسيح? فكيف لا يرتزق هؤلاء، في فندقِ أو في مطعم أو في محطة بنزين، لولا الخيال الشرقي وحكاية السمكة الذهبية، وجبل المغناطيس، في وسط البحر الهائج، فلا تستطيع أن تشق عبابه بقاربك إلاّ إذا امتنعت عن ذكر الله، سبحانه وتعالي، على لسانك مهما يمج الموج وتعصف العاصفة?
وهل غير ألف ليلة وليلة نفع تلك القرية الصغيرة الخربة الوادعة، بالقرب من باقة الغربية في المثلث الصغير، حين جاءوا إليها في الانتخابات الثالثة وأمروها أن تمنع الشيوعيين، بالقوة، من عقد اجتماعاتهم في القرية وإلا فسوف يشردونهم، بالقوة، عبر الحدود?
فلما أرسلني يعقوب إلى القرية، قبيل موعد الاجتماع بساعة، لأستطلع الأمر ولأضمن تنفيذ الضرب، دخلت القرية فما التقيت إنسانًا. فتنقلت بين بيوتها. فإذا أبوابها مفتوحة. فدخلت البيوت من أبوابها المفتوحة. فما وجدت حيًا سوى دجاجات سائبة. وأما الكلاب فأقعت في القيلولة.
فرحت أمشي مذهولاً، أتصورني الأمير موسى وقد دخل مدينة النحاس المسحورة، فإذا (لا حس فيها ولا أنيس. يصفر البوم في جهاتها. ويحوم الطير في عرصاتها. وينعق الغراب في نواحيها وشوارعها ويبكي على من كان فيها)
حتى سمعت سعالاً في بيت من الطين. فولجته فإذا شيخ ضرير مقعد. فلما سمع وقع أقدامي قال: هل جئتم، يا شوعة?
قلت كاذبًا: جئنا. فأين أهل البلد?
قال: خرجوا جميعًا إلى تلة قريبة ليكفوا شر الحاكم وشركم عن هذه القرية. فاخرجوا، يا بني، فيعود أهلها إليها.

ولما استوضحته الأمر أبلغني أنهم اجتمعوا شورى بينهم فقالوا: لا نعرف هؤلاء الشوعة ولا يعرفوننا.. وليس بيننا وبينهم دم ولا ثأر. فإذا أراد الحاكم قتلهم فهو أولى بذلك منا وأقدر عليه. وإذا لم نقتلهم قتلنا الحاكم. فقرروا أن يهجروا القرية حتى ينقضي النهار.
قال: أما أنا فبقيت لأن العمى قتلني. فلا أَقتُل ولا أُقْتَل. فاذهب، يا بني، حتى ينقضي اليوم على خير.
فمضيت إلى يعقوب بهذه البشارة. فصاح في وجهي: يا حمار. لقد فعلوها وأنت تحسبها بشارة? كل ما أردناه أن يفصل الدم بينهم، لا التلة!!
ولم أكن أحسبها بشارة بل أردت له أن يتوهم أنني أحسبها بشارة. أما ما كنت أفكر به فهو ما كان الأمير موسى يفكر به وهو يقرأ ما كان منقوشًا على لوح الرخام الأبيض الأول في مدينة النحاس الميتة:
(أين ملك البلاد، وأذل العباد، وقاد الجيوش?.. نزل بهم، والله، هازم اللذات ومفرق الجماعات ومخرب المنازل العامرات. فنقلهم من سعة القصور إلى ضيق القبور)، ثم وهو يقرأ ما كان منقوشًا على اللوح الثاني:
(أين الملوك الذين عمروا العراق، وملكوا الآفاق. أين من عمروا أصفهان وبلاد خراسان? دعاهم داعي المنايا، فأجابوه. وناداهم منادي الفناء، فلبوه. وما نفعهم ما بنوا وشيدوا. ولا رد عنهم ما جمعوا وعددوا)
ولكنني لم أكن أبكي كما بكى الأمير موسى.
وهذا كان حالي حين كنت أقضي حاجة في المحكمة العسكرية بالناصرة. فإذا بطفل في العاشرة من عمره يخرج إلى الباحة مذعورًا يسأل الرجال عن أمر. فأشاروا صوبي. وكانوا يعرفون صنعتي وبطاقتي. فأقبل عليّ الولد وهو يقول: الحاكم يطلبك. فهرولت إلى القاعة مرفوع الرأس أن الحاكم يطلبني، فإذا المحكمة معقودة. وإذا الطفل يقول: هذا، يا سيدي، من أقربائي. فبهت، فنطق بالحكم عليّ بالسجن ثلاثة أشهر أو بفدية خمسين ليرة. كيف? قيل: لأن الطفل، الذي ادّعى قرابتي، سافر إلى حيفا بدون إذن عسكري بالسفر إلى حيفا. وحيث إن أصول الديمقراطية تحول دون حبس الطفل فقد قرروا حبسي
فلما صحت أنكر قرابته ألقى الحاكم على الحضور محاضرة في رغبة الدولة في أن يتحلى رعاياها العرب، هم أيضًا، بالشجاعة الأدبية، وفي الدولة تحترم الذين لا يتنكرون لذوي القربى.
فلما أشهرت بطاقة اتحاد عمال فلسطين زجرني وقال: سأحيل أمرك على رؤسائك كي يعلموك الشجاعة.
فنقدتهم خمسين ليرة وخرجت شجاعًا.
فبحثت عن الولد، قريبي، فإذا هو بين الرجال واحدًا منهم وقد ضحك ضاحكهم وقال: خيال، يا محترم، خيال!
أما خيال ولاء، ابني ووحيدي، فقد وجد متنفسًا آخر.

الجمعة، 30 مايو 2008

10-حكاية السمكة الذهبية

فمنذ أن أصبح سر باقية سري، أصبحت الحذر مجسمًا يمشي على اثنتين. فلما أدركت أن الحذر هو من ذوات الأربع، رحت أمشي على أربع.
فلما أنجبت باقية طفلنا البكر، فأرادت أن تسميه باسم والدها النازح (فتحي)، فرفع الرجل الكبير، ذو القامة القصيرة، حاجبيه فوق المكتب تساؤلاً، سميناه (ولاء). ولما أدركت أن تحديد النسل هو من مقومات الولاء لم ننجب غيره. وكنت، كلما أثقل السر عليّ، أطلق لساني بإعلان الولاء في محله أو في غير محله. وكنت أعتبر نفسي باطنيًا حتى أرسلونا في وفد إلى أوروبا وحملونا قبعات (تمبل) لنهديها إلى إخواننا اليهود هناك، مع أحاديث اللبن والعسل وتزويج العوانس وإشفاء السرطان، فأهديتهم قميصي وبنطلوني وثيابي الباطنية. ولم أحتفظ إلاّ بسري الدفين.
وطول هذا الوقت كنت أختلي بباقية تغمغم همسًا بأحسن الطرق إلى انتشال الصندوق. حتى تواضعنا على كلام غريب لا يفهمه سوانا.
وكنت كلما وقفت أمام زملائي في الصنعة، فدهمني التفكير بالسر وشعرت به يحاول أن يقفز من عيني، أغمضهما حتى لا يقفز. حتى لبستني هذه الآفة، فصارت جفوني ترفّ، أغمضهما وأفتحهما. فقالوا: بالوراثة. فقلت: هذا جناه عليّ جدي لأبي. رحمهما الله. وما كنت كاذبًا.
ولما كان أكثر كلامنا أن في العجلة الندامة وفي التأني السلامة، فقد ظل (ولاء) يحبو متأنيًا حتى بلغ الرابعة من عمره. فاصطحبته إلى شاطئ الطنطورة إمعانًا في التعمية. وشجعته على صيد السمك.
وكنت، أجلسه على صخرة في لسان البحر. فيرسل خيطه. فأخلع ثيابي وأنزل البحر طالبًا منه أن يناديني إذا أقبل مقبل. ثم أسبح بعيدًا نحو الجزيرة القفراء الصغيرة، في عرض البحر أمام خرائب الطنطورة. فأغوص ما وسعني الغوص في كهف معتم تحت الصخر، في المكان الذي أرشدتني إليه باقية، فلا أجد سوى سمك يفر أو طحالب لاصقة. ولم أجرؤ على المضي بعيدًا في الكهف.
حتى أسمع بكاء ولدي ولاء، وقد استوحش. أو أسمع نداءه. فأخرج إلى السطح فأرى عاشقين يتعانقان على الشاطئ. فأعود أدراجي، ويمضيان في ذلك.
وكان ولاء يلح عليّ سائلاً: عمَّ تبحث يا أبي?

فأجيبه: عن السمكة الذهبية.
وأحكي له ما علق في ذهني من حكايات ألف ليلة وليلة. وأسرح به مع خيالي الباحث عن الكنز الذهبي منذ جدنا الأكبر، أبجر بن أبجر.
- فهل ستجدها يا أبي?
- إذا ثابرت على الغوص، ولم تفش السر، فسوف نجدها.
- فهل وجدها آخرون، يا أبي?
- لا بد أن يكون آخرون وجدوا سمكاتهم الذهبية.
- فإذا وجدناها، ماذا سنفعل بها، يا أبي?
- مثلما فعل بها الآخرون.
- فماذا فعل بها الآخرون، يا أبي?
- لم يطلعوني على سرهم.
فكان ينصرف إلى ما هو فيه من لهو أو من صيد. أو كان يعلن أنه يرغب في العودة إلى البيت. فنعود.
وما كنت أعلم أنه يعود لكي يختلي بوالدته. حتى أقبل يوم اقتعدنا فيه هذه القعدة على شاطئ الطنطورة فإذا به يفاجئني بالسؤال:
- لماذا، يا أبي، تخاف من أن يراك الناس وأنت تبحث عن السمكة الذهبية?
- حتى لا يسبقوني إليها.
- فإذا وجدتها، يا أبي، وعلمت الحكومة بالأمر، هل ستأخذها منا كما أخذت الطنطورة من جدتي ومن جدي?
- من أدخل هذه الأفكار إلى رأسك، يا ولد?
- ماما?
وفي تلك الليلة بقينا نتشاجر همسًا، باقية وأنا، كي أقنعها بأن تبقي الكنز سرًا عن ثالثنا، وأن نعلمه أن لا يفرط في كلامه، وأن يحبس لسانه، وأن يحذر الحذر كله، وألا يتكلم في هذه الأمور إلاّ همسًا، حتى طلع الفجر.
فما انتبهنا إلاّ وهو يدخل علينا، يمشي على رؤوس أصابعه، ويضع سبابته النحيلة على شفتيه المزمومتين، وهو يهمس:
- جاءت اللبانة!

الثلاثاء، 27 مايو 2008

9-حكاية الثريّا التي رجعت تسفّ الثري

وبعد عشرين عامًا، لما قرأت عن كنز العجوز اللداوية ثريا عبد القادر مقبول، كيف أضاعته لسلامة طويتها، أي لسذاجتها، أيقنت أنني أحسنت صنعًا لما لم أبق عنصرًا من عناصر الخطر والفجاءة إلاّ حسبت حسابه، واحتطت له حيطة شديدة، حتى بقي سري دفينًا ما كشفت عنه إلاّ الآن، ولك يا محترم.
ففي العاشر من أيلول، من العام الخامس ب. ح ، الموافق عام 1971م روت صحيفتكم الاتحاد، عن معاريب، عن هآرتس، عن الشرطة الإسرائيلية العامة، عن شرطة اللد الإسرائيلية، أن السيدة العجوز ثريا عبد القادر مقبول، السن خمسة وسبعون عامًا، عادت من الأردن إلى بلدها ومسقط رأسها، مدينة اللد، بموجب نظام العطلة الصيفية عبر الجسور المفتوحة. وذلك بعد أن ظلت بعيدة عن بلدها ثلاثة وعشرين عامًا لاجئة في عمان مع زوجها وأولادها.
عاشت في عمان مع زوجها وطفلها وأبي عمرة الذي رحمها فلم تنجب منه أطفالاً. حتى شب ولداها، فسعيا إلى الكويت في طلب الرزق. فعادا بحفنة نفط أحمر، شيدا بها بيتًا في عمان، شيعا منه والدهما إلى مقره الأخير. ثم أقبل أيلول الأسود، عام 1970، على صورة دبابة هاشمية نقية تقية من طراز شيرمان، هدمته فلم يخرج من تحت الأنقاض سالمًا سوى الثريا وطويتها السليمة.
فلما وقفت ثريا عبد القادر مقبول بين الأنقاض في صحراء الغربة القاحلة، تذكرت عزها الدارس في فردوسها المفقود، في بيتها العامر في اللد. وكانت خبأت مفتاحه في نقره في الجدار. وكانت جمعت مصوغاتها في صفائح دفنتها في ذلك الجدار. وكانت توكلت ونزحت مع النازحين عام 1948، وهي تؤكد لنفسها: غدًا أعود.
فلما أقبل هذا الغد، بعد ثلاثة وعشرين عامًا، أزمعت أمرها. وفي الصيف عبرت الجسر المفتوح. فضيعت اللبن.
ولما أرادت أن تدخل بيتها القديم في اللد لتنتشل كنزها، أغلقت وريثتها الشرعية، من عهد نوح، الباب في وجهها. فلم تفاجأ حيث إن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة.
فنصحها ذوو القربى، المقيمون في إسرائيل، أن تلتجئ إلى قبضة الأمن وعسس النظام، أي إلى الشرطة الإسرائيلية. فعملت بالنصيحة. فأرسلوا معها رجل شرطة ورجلاً قيمًا على أراضي إسرائيل. فلم يشاؤوا أن يقلقوا راحة الوريثة الشرعية، فأتوا منزل العجوز من خلف جداره، في منزل يقيم فيه ذوو قربى. فأحسنوا وفادتها. فأشارت إلى مكان في الجدار، فحفروا عميقًا. فوجدوا صفائح المصوغات. ثم أشارت إلى مكان آخر. فحفروا. فوجدوا المفتاح. فهللوا وكبروا واغرورقت عيون الجمع. ومسح الشرطي دموع رجل القيم بمنديله. فقوم القيم إنسانية رجل الشرطة تقويمًا عاليًا، فمسح دموعه بمنديله. وتعانق العرب واليهود. وتعايشا بدموع الفرحة والامتنان والإنسانية. فأبلغوا رجال الصحف. فنشروا الخبر. وأذاعته الإذاعة. وكم من معلمة في روضة أطفال، في تلك الأيام المشهودة، روت هذه الحكاية على أطفال الروضة، عن شرطة إسرائيل التي تبحث عن كنوز الأمهات الثكالى العربيات وتبحث عن الأطفال اليهود الضائعين، ولا يغمض لها جفن.
ولكن، حين مدت الأم الثكلى (الثريا)، يدها لتطول مصوغات عرسها، ناولها رجل القيم على أراضي إسرائيل (شهادة بالذهب، وأخذ الذهب وذهب. وأما الثريا فأخذت (شهادة الذهب) وذهبت، عبر الجسور المفتوحة، راجعة لتسف الثرى في مخيم الوحدات ولتدعو بطول البقاء لذوي القربى ولأولاد عمهم.
أما أنا فقد علمتني التجارب ألاّ أحسن النية، وأن أبقي الطوية مطوية، علمًا بأن بطاقة اتحاد عمال فلسطين لا تنفعني إلاّ حين لا أنفع غيري، أو أن يعود النفع على الرجل الكبير، ذي القامة القصيرة، الذي لا ينفع أحدًا.
فلما نقلت متاعي من بيت إلى بيت أصلح للزوجية، من وادي النسناس في حيفا الذي لا يصلح لعشار البهائم، إلى شارع الجبل، ودفعت ثمن المفتاحية، أو خلو الرجل، حتى لم يبق معي ما أستأجر به دابة لنقل متاعي، فنقلتها راجلاً، إذا بسيارة تقف فجأة أمامي. فينزل منها تأبط شرًا. فيستل من تحت إبطه قلما وورقة ويقول:
- نحن (وهو وحده!) من الحارس على أملاك العدو.
فاستللت بطاقة اتحاد عمال فلسطين من جيب المؤخرة، وهتفت: نحن معكم!
قال: لا، لا. أريد شهادة تثبت أن هذا المتاع هو متاعك، ولم تسرقه.

فأسقط في يدي. فأعدت البطاقة إلى جيب المؤخرة. فأسقط في المؤخرة: متى حفظ الناس شهادات تثبت أن متاع بيتهم هو متاع بيتهم ولم يسرقوه? فخفت على بنطلوني.
قال: لا، لا. هذا متاع بيت عربي.
وكان هذا القول قولاً صحيحًا.
فقال: فقد أصبح ملك الدولة.
قلت: كلنا ملكها.
فلم ينج متاعي من ملك الدولة حتى استدعينا يعقوبا فأقنعه بأنني، أنا أيضًا، ملك الدولة. فحملت المتاع إلى بيتي الجديد وأنا غير مقتنع بأن الحارس كف شره عني. فكنت، كلما عسكر ليل، فطرق طارق بابي، أقوم مذعورًا وأنا أهجس بجاء الحارس ليضع اليد على متاعي.
فلما أشركتني شريكة حياتي، باقية الطنطورية، بسر كنزها، فأصبح سري الدفين، صار طرق ابن الجيران على الباب، ليدعونا إلى زفاف أخته، يلقينا من الفراش على أقدامنا مذعورين ونحن نتهامس: لقد علموا!
ولكنهم لم يعلموا.

8-كيف أصبح سعيد صاحب دعوة

قلت لها: نامي، الصباح رباح. ولكنني لم أنم. فقد أدركت أن طريقنا إلى الكنز محفوف بالمخاطر. فإذا لم أتدبره مليًا وقعنا. فلا كنزًا انتشلنا ولا سرًا حفظنا.
فإذا كان البيت الذي شيده أخي، على شاطئ تل السمك، أصبح ملك حكومة الرجل الكبير، ذي القامة القصيرة، فكيف بصندوق في البحر، على أمتار من الشاطئ، أي في مياه إسرائيل الإقليمية قطعًا?
وكانت (باقية)، مثلي، تدرك أن الأمر محفوف بالمخاطر. بل إنه محفوف بأشد المخاطر. بل حسبت أن العرب الذين بقوا في إسرائيل هم، أيضًا، ملك الدولة. قالت إن المختار أخبرهم بهذا الأمر، إنهم أخبروه به.
وكنت، في إحدى الليالي، سألتها: ألم يكن لأخوالك أرض في جسر الزرقاء? فأجابت: بلى. ولكن الحكومة استولت عليها كما استولت على بقية الأراضي في جسر الزرقاء.

فسألتها: ألم يرفع أخوالك أمرهم إلى القضاء?
فأبدت دهشتها. وقالت: قال لنا المختار أنهم قالوا له: حاربتم فانهزمتم، فأصبحتم، وأموالكم، حلالاً لنا. فبأي قانون يطالب المغلوب بحقه?
فما انتبهت إلاّ وأنا أهتف: ها، ها! الآن فهمت حرص الرجل الكبير على منع الشيوعيين عن دخول قريتكم أو عن دخول أمثالها من القرى التي عزلتها الطبيعة. فإذا لم تعزلها، سيجوها بالأسلاك!
ولات ساعة مندم. فقد فتحت باقية عينيها الواسعتين وأمطرتني بالأسئلة:
- من هم الشيوعيون?
- ناس يكفرون بالنعمة.
- أية نعمة?
- نعمة الغالب على المغلوب بالحياة.
- هذه نعمة ربنا.
- فيكفرون بربنا. إنهم ملاحدة.
- كيف يكفرون?
- يدعون القدرة على تغيير المكتوب.
واستعذت بالله. ولكنها ازدادت تلهفًا وإلحاحًا:
- كيف يقدرون على ذلك?
- لعلهم وجدوا، مثلما وجدنا، صناديق تركها لهم آباؤهم مخبوءة على شطئان طنطورتهم.
فهيج هذا الجواب خاطرها، فأبرقت عيناها، وحزمت ما بين حاجبيها فحزمت أمرها، وهي تقول: نستعين بالشيوعيين!
الإشارة إلى الحرمان الذي فرضه الفاتيكان، في أوائل الخمسينيات، على الشيوعيين، فانتشرت شائعة في حيفا أن الشيوعيين قرروا معط لحية الخوري ولذلك حرمتهم الكنيسة.
ولما لم يبق لي والدي، رحمه الله، من متاع الدنيا غير الحذر، فقد جعلت أحمل إليها هذا الميراث صبحة وعشية. فقلت لها: قال والدي، رحمه الله، أن الناس يأكلون الناس، فحاش أن تثق بمن حولك من الناس، إنما عليك أن تسيء الظن بكل الناس، حتى ولو كانوا إخوتك من بطن أمك ومن ظهر أبيك. فإذا لم يأكلوك فقد كانوا يستطيعون أن يأكلوك.
وغير ذلك من كلام الحيطة واليقظة حتى أغفت على ساعدي. فقعدت متيقظًا طول الليل وأنا أفكر في أمر الصندوق وانتشاله

7-كيف أصبح سعيد (ذا السرّين)

في تلك الليلة سمعت من (باقية) ما لم يسمعه عريس ليلة الدخلة، وما لم يسمع عن صبية في عمرها.
قالت (باقية): اسمع، يا ابن عمي! أحببتك! فبرأس أمي وبرأس أبي أحببتك. وإني أحبك يا ابن عمي. ولكنني ما أحببتك تبعث بهؤلاء الناس يطلبون يدي من خالي.

واسمع، يا ابن عمي! صغيرة أنا. أصغر من السن القانونية للزواج. ولكنني أعرف أن واضعي القانون يتجاوزونه حين تكون لهم من وراء ذلك مآرب أخرى. فما هي مآربهم?
دعني أتكلم، يا ابن عمي، ولا تقاطعني.
ظللت أحبك حتى أحببتني. وها أنا أصبحت عروسك، شريكة حياتك. ها نحن نعمر بيتًا واحدًا.
أصبحت أملي، يا ابن عمي. وأنا أريد العودة إلى خرائب قريتي الطنطورة، إلى شاطئ بحرها الساكن. ففي كهف في صخرة تحت سطحه يسكن صندوق حديدي، مليء بذهب كثير، مصوغات جدتي ووالدتي وأخواتي ومصوغاتي، وضعه والدنا هناك، وأخفاه، وأعلمنا بأمره حتى يلتجئ إليه كل محتاج منا إليه.
أريدك، يا ابن عمي، أن تتدبر أمرنا حتى نعود إلى شاطئ الطنطورة، خلسة، أو أن تعود وحدك، فتنتشل الصندوق من مخبئه، فيغنينا ما فيه عما أنت فيه. وأنا لا أريد لأولادي أن يولدوا محدودبين. لقد تعودت ألاّ أتنفس إلاّ بحرية يا ابن عمي!
وكنت لا أكاد أتنفس وأنا أستمع إليها، إلى هذه الصبية تتكلم بجرأة جعلتني أطبق فمي حتى أحفظ قلبي في مكانه.
فلما بلغت هذا المبلغ من حديثها ظهرت لي الحقيقة التي كان جهلي بها يثير عجبي من أصحابك، يا محترم، كيف يستأسدون على السلطة الجبارة، ولا يهولهم رجل كبير حتى ولو لم يكن قصير قامة، مع أنهم لا يملكون شروى نقير.
أدركت سركم، يا أستاذ! فكل واحد منكم، إذن، لديه صندوق حديدي، في طنطورته، حيث أخفى والده كنزه الذهبي.
فلما أدركت أنني، بهذا الكنز، أصبحت واحدًا منكم دون أن تعلموا من أمري شيئًا، انشال هم عن صدري.
وأعجب ما أعجبني منكم أنكم قدرتم على إخفاء هذا السر، على الرغم من أنه سر شائع بين الألوف، بل عشرات الألوف منكم. فقلت في نفسي: إذا استطاعوا ذلك فكيف لا أستطيعه وسري لم يجاوز الاثنين، (باقية) وأنا?
فقمت إلى (باقية) أطمئنها على أمانتي، وعلى رجوليتي، وأخذت أمزج دموعها بدموعي، وهو أضمن للزواج حتى من امتزاج الدم في عروق البنين، حتى هدأت واطمأنت وأصبحت شريكة حياتي.
ومنذ تلك الليلة رحت ألقب نفسي بذي السرين: سري وسركم. أما معرفتي بسركم فقد خففتني. وأما معرفتي بسر (باقية) فقد أخافتني.

الأحد، 25 مايو 2008

6-باقية - التي أشركته في سرّها قبل أن تصبح شريكة حياته

ففيما أنا عائد، في إحدى الأماسي، وقد أقفر المكان. اتكأت على هذه الصخرة، فرأيت اسمي محفورًا على كتفها. فأدركت أن هذه الصبية أشجع من هذا الصبي، وأنها استدرجت أقرانها، الذين كنت أوزع صنارات الصيد عليهم درءًا لشرهم، حتى أخبروها باسمي.

فعلمت أنها تحبني. فأحببتها. وقديمًا علمت بأنني واقع لا محالة، في حب التي تحبني. وليتني أدركت منذ تلك اللحظة، أن شجاعتها غير مألوفة. ولكنني كنت غريقًا على كتف الصخرة الجيرية.

فأغدقت الصنارات وخيوط النايلون على صبي كان يلبي طلبي فينزل إلى البحر يفك صنارتي من صخرة علقت بها. فسألته:

ما أمر هذه الصبية فلا تشارككم صيدكم ولهوكم?
قال: (الطنطورية)?
ثم حدثني بما يعرفه عنها. فإذا هم لا يعرفون لها اسمًا سوى الطنطورية، لأنها من الطنطورة. وقال: إنها كانت في زيارة أخوالها في جسر الزرقاء حين سقطت الطنطورة ورحل أهلها. فبقيت في جسر الزرقاء.

وقال: هي مدنية، وتتكبر علينا.
وقال: أمرها عجيب. فهي إما أنها تبتسم وإما أنها تبكي. فأصبحنا نخافها، ونتحاشاها. غريبة وتقرأ كتبًا وتبتسم لوحدها وتبكي لوحدها.
فلما طلبت منه أن يسأل عن اسمها وعن أخوالها وأن يعود، في الأسبوع القادم، فيخبرني، عاد مع أقرانه وأخذوا يرجمونني بالحجارة. ولم تعد الطنطورية تتكئ على صخرتها. ولم أعد أجرؤ على زيارة ذلك الشاطئ.
فاحتبست في غرفتي، في اتحاد عمال فلسطين، مهمومًا: هل ستضيع الطنطورية عليّ كما ضاعت (يعاد)?..
فإذا بمعلمي يعقوب يهرول ويصرخ: ما كنت تفعل في جسر الزرقاء?
قلت: أتبع هوايتي بصيد السمك.
قال: فما يعنيك من بنات البلد?
قلت: لم أكن أعرف أنها شيوعية!
فانفجر يعقوب بالضحك، فانفجرت معه بالضحك.
وقال إنه يضحك من سذاجتي. فلا خطر من ظهور أي شيوعي في هذه القرية ما دام أهلها معزولين بالرمل وبعتمة الليل وبخيوط العنكبوت.
- خيوط العنكبوت?
- إنهم حمولة واحدة، تنتشر فيهم أواصر القربى انتشار خيوط العنكبوت.
- والطنطورية?
فأخبرني بما كنت أعرفه عن أصلها. وأضاف إلى ذلك أن أخوالها (من جماعتنا) مع أن اسمها الحقيقي هو (باقية). وقال: هذا هو الضد وضده.. ولكنها طفلة.
ووعدني بأن يدبر لي أمرها إذا استيقظت قبل الفجر وقمت إلى عمال القرى، الذين يبيتون في خرائب حيفا، فأيقظتهم، قبل الفجر، على خطر الشيوعيين. فوعدته خيرًا. وأخذت أبيت معهم، فيتركونني أغط بالنوم ويسعون في طلب الرزق.
حتى وقعت انتخابات الكنيست الثانية، في تموز عام 1951، فإذا بالشيوعيين ينالون ستة عشر صوتًا في جسر الزرقاء. فأقبل علي يعقوب، هاشا باشا، وهو يهتف: البشارة، البشارة. لقد قرر الرجل الكبير (ذو القامة القصيرة) أن يصوبك نحو جسر الزرقاء، فتستأصل شأفة هذه الأصوات النشاز.
كيف?
- بأن نزف إليك (باقية).
وما انقضى شهر تموز حتى زفت إليّ (باقية). فلما خلونا إلى بعضنا، وهمست في أذنها: يا شريكة حياتي.
قالت: أشركك، أولاً، بسري الدفين.

5-كيف كانت التماسيح تعيش في نهر الزرقاء

ففي أوائل الخمسينيات، لما أتيتهم أصطاد السمك بين الصخور المشرئبة بعيدًا في عرض البحر على مصب نهر الزرقاء، الذي كانت تعيش التماسيح فيه فسماه إخواننا اليهود باسمها، نهر التنين، وهي التماسيح، مع أن شيئًا لا يعيش فيه الآن غير البوري الصغير وأفاعي النهر.
رأيتهم ينزلون عراة إلى مصب النهر قبل أن تنزل الشمس في مغرب البحر، فتية وفتيات سمرًا، أجسامهم برونزية وأبنوسية، ضامرة من غير صناعة، فينتظمون صفوفًا متوازية على عرض المصب. فيتقدمون صوب البحر وأيديهم في الماء يخرجونها، بين الحين والحين، تمسك بأسماك تتلوي. فيقذفونها نحو الشاطئ. فيتناولها نسوة يأسرنها في أكياس أعدت لهذا الغرض.
سوى صاحبتي الطنطورية، شقراء مثل روميات بيزنطية، فكانت تنتحي مكانًا قصيًا.

فتقف لوحدها تراقب هذا الصيد العجيب ولا تشترك فيه إلاّ بنظرات رانية تفيض بالحياة، وبشفتين تسجلان، برعشات الابتسامات الحيية، رعشات السمك وهو يقذف نحو الشاطئ.
وكانت في عمر الفتيان والفتيات، أربعة عشر عامًا أو خمسة عشر عامًا، جديدة جدة الفجر في هذه النواحي، إلاّ أنها اختلفت عنهم في عزلتها، وفي لون بشرتها الأبيض المشوب بالصفرة.
ولما كنت أعلم أن الأولاد الآخرين هم ذرية المصريين من الوجه القبلي، الذين حملهم إبراهيم باشا معه إلى فلسطين، فأقاموا في جسر الزرقاء وفي غيرها من قرى هذا الساحل، قلت في نفسي: لعل هذه الصبية الشقراء المنفردة، هي من أصل جارية رومية، فتربطنا صلة القربى في أصل شجرة واحدة? فأخذت أراقبها لمآرب تاريخية ولمآرب أخرى.
فلما نبهها وجودي، فغضت الطرف، فانعكست حمرة الشفق على صفحة وجهها الطبيعي، فكشفت عن عينيها أجفان الخجل، فرأيت الحيرة والدهشة وقبلة الحياة ترقص فيهما دبكة شمالية، أيقنت أنني هالك الساعة!
أستعيد هذه الذكريات، الآن يا محترم، وقد أقفر قلبي من هذا العرس. لم تبق الطنطورة، ولم تبق الطنطورية. أما قوم جسر الزرقاء فقد ارتدوا ثيابهم ولحقوا، في العمل البري، جيرانهم الفرادسة. ولم يعد ينزل منهم إلى النهر أو يقف على لسان البحر، سوى فتيان هاربين من مدرسة أو شيوخ هاربين من بقية حياة. ولولا الحركة المباركة، التي قامت بها جمعية الرفق بالطبيعة، فحالت دون السلطة وإقامة المحطة الكهربائية، التي أزمعوا إقامتها على مصب النهر، لما بقي اسمي - سعيد - محفورًا على كتف الصخرة الجيرية التي كانت الطنطورية تتكئ عليها ونحن نخيط، بالعيون، وشائج المستقبل.

4--كيف سبَقَت العروبة الأصيلة، بالتشمير، عصر التشمير

في الربيع التقيت الطنطورية. وما هذا هو اسمها، بل نسبة إلى قرية الطنطورة، على شاطئ البحر، حيث سقط رأسها قبل أن يسقط مسقطه بثلاثة عشر عامًا.

وكان الرحيل دهمها وهي في زيارة أخوالها، في قرية اسمها جسر الزرقاء، على شاطئ البحر أيضًا. فبقيت فيها حتى تشاطرني الهموم وأشاطرها ردحًا من الزمن.

وأمر هذه القرية، جسر الزرقاء، أمر عجيب. فكيف صمدت هذه القرية لدواهي الحرب والترحيل، مع أختها فريديس - الفردوس - المجاورة، لما قبض الريح بقية القرى العربية على الساحل، ما بين حيفا وتل أبيب - الطيرة وأجزم وعين غزال الطنطورة وعين حوض وأم الزينات، وهي أعمق منها جذرًا، وأصلب عودًا?

أما فريديس - الفردوس - فبقيت لحاجة في نفس يعقوب. وهو غير معلمي يعقوب من اتحاد عمال فلسطين. بل جيمس (يعقوب) دي روتشيلد، الذي أقام بحلالة مستوطنة (زخرون يعقوب) - لذكرى يعقوب - في أواخر القرن التاسع عشر. فانصرف أهلوها القادمون من أوروبا، إلى صناعة النبيذ الجيد، فتضعه مصايف العروبة، وقد تعددت أسماؤه، على موائد أمراء الجزيرة، من الربع الخالي، عبر الجسور المفتوحة، فسيتذوقونه، فينشد منشدهم:

يا بشر ما لي للسيف والحرب
وإن نجمي للهو والطرب
لو كان قصف وشرب صافية
مع كل خود تختال في السلب
والنوم عند الفتاة أرشفها
وجدتني ثم فارس العرب
ثم ينتشي منتشيهم صائحًا يتهم كل مطالب بتنفيذ قرارات مجلس الأمن بأنه خائن العروبة!
أما الفرادسة فقد أنقذهم عصر الكرمة، في دنان يعقوب، من أعاصير الحروب. والحق يقال عن أهالي زخرون يعقوب أن الربح الوفير، الذي جنوه من سواعد الفرادسة وسيقانهم، شد من سواعدهم حين حمل عليهم إخوانهم الصهيونيون، من ذوي العمل العبري النقي، التقي، الصافي صفاء خمرة تلك الدنان، حتى ضحكوا، بصفاء نية، من الحكاية التالية التي انتشرت عنهم وحدثني بها معلمي يعقوب، بصفاء نية:
إن آباء زخرون يعقوب اختلفوا يومًا:
هل من الحق، شرعًا، أن يعاشر الرجل زوجه في السبت، أم أن الأمر عمل، مثله مثل بقية الأعمال التي لا تجوز في السبت، شرعًا. فذهبوا إلى الحاخام ليقضي بينهم، هل الأمر عمل أم لذة. ففكر الحكم طويلاً، ثم حكم إنه لذة. فهات برهانك? قال: لو حكمت بأنه عمل لأعطيتموه العرب - الفرادسة!
فضحكنا، يعقوب لأنه يكره الأشكناز، وأنا لأنه ضحك.
ومن التجني أن تلوموا أبناء الفردوس - فريديس - على أنهم حافظوا عليه فضلة دنان.
فمن شيد المباني الشاهقة في هذه البلاد، وشق طرقها العريضة، وزفتها، وأحكم الاستحكامات، وحفر الملاجئ?
ومن زرع القطن، ثم جناه، ثم حلجه، ثم نسجه أثوابًا يتيه فيها سادة رغدان وبسمان، فقيل إن الاتحاد الوطني سيخيط منها لباسه الموحد، فيتساوى أعضاؤه، كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بملوكهم وبتقبع الكوفية، رمز العروبية، حتى إذا فارت دماؤها في عروقهم، تلثموا بها غب الشهادة، فإذا انفجرت دماؤها في عروقهم أقعوا يرغون ويزبدون بالحياة الأفضل، حتى إذا تأججت دماؤها في عروقهم لعنوا المستوردات الأجنبية سوى الملكية والكوفية والطيارة والخمارة والصورة والوقوف للصورة ولثم اليد وولي العهد و(تمتع الغني بما جاع به فقير) ، في الأسرة الواحدة الأسير، وقهر العمال والاستغلال، وقطع الرزق، والفسق، في عصر التشمير، وكان العرب سبقوا إليه حين قالوا: شمر للحرب وشمر للسلم وشمر للعمل وشمر للصلاة، ولم يقولوا: تقبع أو تسربل أو تكوكف أو تلثم أو ولول: عاش الملك!
من شيد المباني وشق الطرق وحرث الأرض وزرعها، في إسرائيل، غير العرب الباقية في إسرائيل، فالعرب الباقية، صبرًا، فيما احتلته دولتنا من أرض لم يجد لها أحمد الشقيري متسعًا في ملفات خطبه الرنانة?
ولقد رأيتهم، في ساحة العجمي بيافا، شبابًا في عمر التمر، من غزة وجباليا وبيت لاهية وبيت حنون ودير البلح وخان يونس ورفح، يتمايلون على سيارة المقاول كتمايل شواهد القبور فوق إخوتهم الشهداء في مقابر غزة ، فآمنت بأن الأحياء يستطيعون هم أيضًا، أن يبقوا في وطنهم!
ورأيتهم في ساحة باريس (ساحة الحناطير، فالخمرة في الزمان الأول)، في حيفا التحتا، شبانًا في عمر نوارة اللوز والمشمش اللوزي والتفاح أبي الخد الأحمر، من قلقيلية وطولكرم وجنين وطوباس والسيلة واللبن، ينتظرون سيارة المقاول، فيتحسس سواعدهم ويروح النظر في قاماتهم الممشوقة، فيمتطي منهم من اشتد ساعده وقست ساقه. فاستعدت حالنا قبل عشرين عامًا. فآمنت بأن هذا الشعب لا يفنى!
ورأيتهم، في المغيب، يحشرون في سيارات النقل العتيقة، كما حشروا، في يومهم، صناديق البطاطا، وكوموا الشمندر في سيارات أحدث من السيارات التي ينقلون فيها، عائدين إلى مدنهم وقراهم، إلاّ الذين غض السيد المقاول الطرف عنهم ليبيتوا ليلتهم في بناء لم يتموا بناءه، يتسترون بالطوب من الطارقين: برد ما قبل الفجر، ودهمة الشرطة ما قبل الفجر.
حتى إذا تفتحت أكمام الفجر شمروا عن أكمامهم وتفتحوا على الحياة تفتح الياسمين. فتذكرت حالنا قبل عشرين عامًا، وكيف كان معلمي يعقوب يخيرني أن تضيع الطنطورية عليّ، كما ضاعت من قبل (يعاد)، أو أن أهب مع الفجر، فأنطلق إلى هؤلاء، الواقعين في براثن المقاول، فأنقذهم من براثن الشيوعيين (كما أنقذت عجائز النصارى لحية الخوري من المعط وهو قائم فوق المحراب يصلّي
فآمنت، يا محترم، بأن الأمر مكتوب علينا، فلا بد مما ليس منه بد. أو كما جاء في الأغنية الإيطالية التي ترجمتها شعرًا:
مشيناها خُطًي كتبت علينا ومن كتبت عليه خُطًي مشاها!
أما أهل القرية، جسر الزرقاء، وهم أخوال صاحبتي الطنطورية، فلم يمشوا أية خطوة، ولم يخرجوا أبدًا من قريتهم المنسية. وهذا سر بقائهم فيها. فلم تدر مذراة الرحيل الأول بوجودهم. فظلوا يصطادون صغار السمك في مصب النهر، آمنين، سوى الطنطورية.

*من قصيدة لأبي نواس.
*لعلي بن أبي طالب: "ما متع غني إلا بما جاع به فقير".
*الإشارة إلى ما انتشر من يقين في غزة وفي بقية أنحاء المناطق المحتلة، في أواخر أيلول عام 1972، عن تحرك الشواهد فوق قبور الشبان الأربعة، في مقبرة حي الشجاعية في غزة، مصطفى عبد القادر وحسين سليمان وعون سعيد ونوفل شمالي، الذين صرعهم رصاص الاحتلال.
*الإشارة إلى الحرمان الذي فرضه الفاتيكان، في أوائل الخمسينات، على الشيوعيين، فانتشرت شائعة في حيفا أن الشيوعيين قرروا معط لحية الخوري ولذلك حرمتهم الكنيسة
.

السبت، 24 مايو 2008

3-كيف تحول سعيد إلى هرة تموء


عشت في الدار الخارجة، خارج الدياميس، عشرين عامًا وأنا أريد أن أتنفس فأعجز، كالغريق، عن التنفس. ولكنني لا أموت. وأريد أن أنطلق فأعجز، كالسجين، عن الانطلاق. ولكنني أبقى حرًا.
وكم من مرة هتفت بمن حولي: يا قوم، إن فوق كتفي لسرًا خطيرًا أنوء بحمله، فأعينوني! فما خرج من تحت شاربي سوى مواء الهرة.
حتى آمنت بحلول الأرواح.
تصور روحك، بعد موتك، حلت في هرة. فبعثت هذه الهرة لتسيب في فناء بيتك. فخرج ابنك، حبيبك، يتلهى بما يتلهى به الصبيان من اللعب. فناديته، فمؤت. فزجرك. فناديته طويلاً، فمؤت طويلاً. فرماك بحجر. فذهبت في حال سبيلك وحالك كحال الفتى العربي في شعب بوان.
(غريب الوجه واليد واللسان)*
هكذا حالي: عشرين عامًا أهر وأموء حتى أصبح هذا الحلول يقينًا في خاطري. فإذا رأيت هرة توسوست: لعلها والدتي، رحمها الله! فأهش لها وأبش. وكنا نتماوأ أحيانًا.
فهتف صاحبي الفضائي وقد انبسط صدره: على رسلك يا ابن النحس! أراك تأهلت للانتقال إلى المرتبة التاسعة من الدعوة*
قال: كان أسلافنا، من إخوان الصفاء وخلان الوفاء، شبهوا الخلق من أمثالك بالبهائم العجمية. فلجموا كما تلجم البهائم بلجم الحديد الثقال، والأرسان لتقاد حيثما قيدت، وتمتنع عن الكلام بما أرادت. حتى بإذن ربها بانتباه نائمها، وبقيام قائمها، وبظهور الناطق. فيفك البهائم الأسيرة، والأشخاص الذليلة، من أسر العبودية وقيد المملكة ورق الذل، ويجعل الذين أهانوهم في مثل ما كانوا فيه، جزاء ما كانوا يعملون.
فهتفت به: فأنطقني!
قال: عد إلى الكتابة إلى صاحبك.
قلت: أخرجني إلى الناس وكأنني خارج عن الناس.
قال: وهل الذي استشعر* منهم بمختلف كثيرًا عنك، أما أنت فتقمصت هرة. وأما هو فتقمص شاعرًا. وكلاكما يهرب حتى يتنفس، ويختنق حتى لا يموت. ومنهم من احترف الأدب عجزًا. ومنهم من هرب من موقفه بتغيير موقعه.
وآخرون أخفوا عورة العجز بورقة الحكمة. وآخرون بالفلسفة، وبأن الزمان حاملهم لا محالة على العقرب القصير، إن لم يكن حاملهم على العقرب الطويل، إلى قيام الساعة، وبأن الشعب غير مؤهل لغير ذلك، وبما إلى ذلك من علل العليل.
ما هكذا فعل قائدنا، أبو ركوة *، قبل ألف عام. فلما رأى الناس يؤمنون بأن الحاكم بأمر الله يحكم بأمر الله، لم يسقط في يده، ولم ينتظر أن يصبح الشعب مؤهلاً، بل أقنعهم بأنه ثائر عليه، هو أيضًا، بأمر الله. فتلقب بالثائر بأمر الله على الحاكم بأمر الله. فحيد العزة بالعزة. والحاكم أظلم. فتبعه خلق كثير. وكنا بينهم.
قلت: وسري الدفين?
قال: فجد به
وها أنا فاعل.

*الإشارة إلى قصيدة المتنبي :
"مغاني الشعب طيبا في المغاني بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان "
*الإشارة إلى مراتب الدعوة الإسماعيلية التسع.
*أي أصبح شاعرا.
*أبو ركوة_ هو الوليد بن هشام بن المغيرة.ثار على الحاكم بأمر الله في مصر(996-1021)، ولقب نفسه بالثائر بامر الله ولقب بابي ركوة لانه كان يحمل ركوة ماء لوضوئه على الطريقة الصوفية.

الثلاثاء، 13 مايو 2008

2-الشَّبه الفريد بين كنديد وسعيد

فينتبه صاحبي الفضائي على أزيز طائرات نفاثة تروح وتغدو فوق البحر، شمالاً إلى رأس الناقورة ثم تغدو فتختفي وراء الجبل فأحسب أن سمكة مذعورة شدت في خيطه. فأشد في خيطي شدًا خفيفًا. فيهدئ من روعي.
ويقول: تذكرت ما أتاني من تقول أصحاب صاحبك على ما نشره من رسالتك الأولي إليه وقولهم: احتفز الأستاذ ليشب فوقع دون كنديد إلى الوراء مئتي عام! فأقول:
ما شأنه وهو رسول? فما على الرسول إلاّ البلاغ!
فيقول:
كنديد متفائل، أما أنت فمتشائل.
فأقول:
هذه نعمة خص بها قومي من دون بقية الأقوام.
فيقول:
إن في الأمر لمحاكاة.
فأقول:
لا تلمني، بل لُم هذه الحياة التي لم تتبدل، منذ ذلك الحين، سوى أن (الدورادو) قد ظهرت فعلاً على هذا الكوكب.
فيقول:
أفصح.
فأفصح بالمقارنة بيننا وبين كنديد كما يلي بالتمام وبالكمال، لا أسقط سوى ما تكرر، عامًا عامًا، على مدى ربع القرن، وأقول:
ألم يعز بنغلوس نساء (الآبار) على ما فعله بهن عسكر (البلغار)، من اغتصاب ومن بقر بطون ومن قطع رؤوس ومن هدم قصور، بقوله:
(غير أنه انتقم لنا. فقد أصاب الآبار بمثل ذلك السوء بارونية مجاورة يملكها سنيور بلغاري)?
فبمثل هذه التعزية تعزينا نحن، بعد مئتي عام. وذلك في أيلول من عام 1972 يوم أن قتل رياضيونا في ميونيخ. ألم ينتقم لنا طيراننا الحربي بقتل النساء والأطفال، المبتدئين في رياضة الحياة في مخيمات اللاجئين في سوريا ولبنان، فتعزينا?
وفي اليوم التاسع والعشرين من الشهر الذي جاء بعد أيلول، في أكتوبر الخلسة، ولما عادت طائراتنا من ضرب مخيمات اللاجئين في سوريا ضربًا موفقًا، ألم يجتمع الوزير بنغلوس بأرامل رياضيينا المغدورين ويعزيهم بأن طائراتنا أصابت الهدف إصابات محكمة وفعلت فعلاً عظيمًا?
وحتى لما كانت هذه الدولة لا تزال تحبو، وتطلع على العالم بريئة براءة الأطفال، في أوائل تموز من عام 1950 ألم يردد كاتبنا المشهور جون كمحي، في (جروسليم بوست)، حكمة بنغلوس هذا فكتب:
(لقد شن العرب حربًا دامية على اليهود. فهزموا في هذه الحرب. فلا يحق لهم، إذن، أن يتذمروا حين يطلب منهم دفع ثمن الهزيمة التي نزلت بهم)?
وكنديد، (يعن له، في يوم من أيام الربيع، أن يتنزه وأن يمضي قدمًا معتقدًا أن استخدام الإنسان لساقيه، كما يروقه، هو امتياز للنوع البشري، كما هو امتياز للنوع الحيواني. ولم يكد يسير فرسخين حتى أدركه أربعة أبطال طول الواحد منهم ست أقدام. فأوثقوه. وأتوا به إلى سجن مظلم).
فلما استخدم هذا الامتياز البشري، والحيواني، بضعة أولاد من قرية الطيبة، يتراوحون في العمر بين تسع سنين واثنتي عشرة سنة، فمضوا قدمًا إلى مدينة نتانيا ليروا البحر بالعيون بعد أن سمعوا هدير موجه بالآذان. ألقي القبض عليهم. فاقتيدوا إلى محكمة عسكرية. فأوقع حاكم المحكمة العسكرية على هؤلاء الأولاد عقوبة الغرامة. فمن عجز عنها فبما يملكه حتى الطفل، وهو الحياة، شهرًا في السجن. ولما عجز أحد الأولاد عن دفع الغرامة، فافتداه والده بحياته شهرًا في السجن، أبى الحاكم إلاّ أن يزيد على سنن الطبيعة شهرًا واحدًا، فأمر أن تفتديه والدة الولد بشهر عاشر من حياتها بعد شهور الحمل التسعة
وما زال هذا الامتياز البشري مرهونًا بإذن الحاكم حتى يومنا هذا.
وفي قصة كنديد، لما استولى القرصان على سفينتهم في عرض البحر، فأخذوا يفتشون الرجال والنساء، روت امرأة عجوز ما نزل بها من تفتيش، فقالت: (ويعرون من فورهم كالقرود.. ومن الأمور التي تثير العجب سرعة تعرية هؤلاء السادة للناس. ولكن أكثر ما أدهشني هو إدخالهم إصبعا إلى مكان فينا جميعًا لم نكن، نحن النساء، لندع شيئًا يدس فيه غير أنابيب المحقنة.. وهذه عادة استقرت، منذ زمن لا يعرف أوله، بين الأمم المتمدنة التي تجول على البحر. وقد علمت أن هذا لا يفوت فرسان مالطا المتدينين مطلقًا، حين يأسرون تركا وتركيات. فهذا قانون دولي لم تخالف أحكامه قط)
فحتى يومنا هذا تطبق حكومتنا هذا القانون الدولي على الترك والتركيات من العرب، جوًا وبحرًا وبرًا - في مطار اللد، وفي ميناء حيفا، وفوق الجسور المفتوحة. فصار الترك والتركيات، حين يزمعون أمرهم على السفر، يتناظفون جيوبًا وحقائب وثيابًا، ظاهرة وباطنة. والتركية، حين ترغب في أن تضبع الشرطية، ترتدي أفخر الباطنيات النايلونية حتى تتأدب الشرطية حسدًا.
فيضحك صاحبي الفضائي ثم يقول مستريحًا: فهل تقوّل أصحاب صاحبك عليه، بأنه قلد كنديد، يعود إلى أنهم، حين كانوا يعرونهم، كانوا يدخلون أصابعهم هناك?
- هات مثلاً..
- قرية برطعة، في المثلث، المقطعة، مثل الطفل في محكمة سيدنا سليمان عليه السلام، إلى نصفين، نصف أردني ونصف إسرائيلي.
- الطفل في محكمة سيدنا سليمان، عليه السلام، ظل سليمًا ورفضت والدته الحقيقية اقتسامه
أما برطعة فاقتسموها وظلت سليمة. فلما سطا لصوص على قطيع بقر أردني، تعداده عشرة رؤوس، فمر الأثر بقرية برطعة، حملت الحكومة الأردنية على القرية حملة محمولة على ظهور الخيل. فجمع الفرسان الأهالي. وطرحوهم أرضًا. وأشبعوهم ضربًا ورفسًا حتى قام الأهالي وأشبعوا الفرسان، كل فارس دجاجتين، والخيل، كل فرس علفها. وبرطعوا في برطعة. فسميت برطعة. فلما عادوا أدراجهم، حمل جند بنغلوس على القرية وانتشروا يبحثون عن المتعاونين مع الغزاة الأردنيين.
فإذا وجدوا قرويًا لم يطرحه الفرسان الأردنيون أرضًا واكتفوا بلكمه، ثبتت تهمة التعاون مع العدو عليه. فإذا كانوا طرحوه أرضًا واكتفوا برفسه، فهو متعاون. فإذا ضربوه ولكموه ورفسوه ولم يطرحوه أرضا فهو متعاون، إلخ
وأنهي هذه المقارنة العجيبة بيننا وبين كنديد، فأقول:

كنديد، يا سيدي، كان يقول: (كل شيء في هذا العالم حسن لا ريب فيه. وذلك مع الاعتراف بإمكان الأنين قليلاً مما يحدث في عالمنا روحا وبدنا). أما أنا فحتى الأنين لم يكن متيسرًا لي.
فيقول صاحبي الفضائي: أفصح!
فأفصح وأقول:

الأحد، 11 مايو 2008

كيف اضطر سعيد إلى الإمساك عن الكتابة لأسباب أمنية-الكتاب الثاني: باقية

بـــــــــــــاقــــــــــــيـــــــــــــة
كما تحب الأم
طفلها المشوها
أحبها
حبيبتي بلادي
سالم جبران
صدرت في أواخر 1972
كتب إليّ سعيد أبو النحس المتشائل، قال: سلام عليك ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فأمسكت عن الكتابة إليك زمنًا شحيحًا لأسباب أمنية، أمني، هذه المرة. لا أمن الدولة، وأمن إخوتي الفضائيين الذين أقيم في كنفهم، في دياميس عكا، آمنًا غير مطمئن.
فلما جعلت حكومتكم ترمم الدياميس وتقيم جدرانها، وتضيئها بالكهرباء، وتكشف عن باحاتها، وعن زخارفها، وتزخرفها، جعلنا ننسحب إلى الدياميس غير المنظورة. لا نتوقف في مكان واحد، ولا نخلو إلى أنفسنا لحظة واحدة، كقولك: اضرب واهرب، كل واهرب، اكتب واهرب، وهذا غير متيسر.
حتى أدبر الصيف، وخفت الرجل، وانقطع اللغط سوى من دعاء ضفدع ومن نجوى صرصار.
فدعاني أخي الفضائي فقال: هلم نخرج إلى البحر.
فخرجنا. فاقتعدنا صخرة بعلبكية ملساء، على هودج في السور إلى يسار المنارة. وأرسلنا خيوطنا نصطاد سمكًا.
وكنا في شهر أكتوبر. والنسمة شرقية دافئة. والبحر رائق المزاج تتناثر أضواء النجوم على صفحته الهادئة. ونظرنا أمامنا فإذا حيفا المتوهجة أصبحت حيفاءين: حيفا المتكئة على مسند الكرمل، وحيفا المستحمة في البحر، متجردة من أقراطها وعقودها وخواتمها.
فأرى إلى البحر الجبار، وقد هدأ، كيف يبدو أشد جبروتًا. فالجبار المطمئن أشد جبروتًا. والبحر الهادئ هو الجبار المطمئن.
وكم من روح مضطربة، مثل روحي، التجأت إلى البحر تستمد منه هذا الاطمئنان.
فلما تكاثرت ليالي حزيران على العرب، تكاثر صيادو السمك الهواة منهم. فقيل: يهربون من هموم أزواجهم.
وكانوا، بالحق، يبحثون في البحر عما يقنعهم بأن ثمة ما هو أقوى من دولتنا.
ورب ليلة دهمتهم الشرطة فيها، وهم قيام على صخور الشاطئ في نهاريا، حيث يبلغ البحر بالوعاتها، فيخصب بأشتات السمك، وقد استخفهم اطمئنان البحر، فاستخفوا بأسئلة العسس، فباتوا بقية ليلتهم في سجن.
أما أنا فحملتني هذه الهواية سرًا عجيبًا أصبح هويتي. ولولا لجوئي إلى إخوتي الفضائيين، في دياميس عكا، حيث لا ينالني شركم، لحملته معي إلى القبر.
فأتذكر سري، وأقول: إن في هذه الجهات لسرًا عجيبًا! فيجيبني صاحبي الفضائي: سبقك إلى هذا القول ابن جبير الرحالة* . وكان قعد على هذا الشاطئ مترقبًا هدوء البحر ليفر من عكا، التي مومسها الروم. فكتب يقول:
(وفي مهب الريح، بهذه الجهات، سر عجيب. وذلك أن الريح الشرقية لا تهب فيها إلاّ في فصلي الربيع والخريف. والسفر لا يكون إلاّ فيهما. والتجار لا ينزلون إلى عكّا بالبضائع إلاّ في هذين الفصلين.. والسفر في الفصل الربيعي من نصف أبريل. وفيه تتحرك الريح الشرقية وتطول مدتها إلى آخر شهر مايه، وأكثر وأقل بحسب ما يقضي الله تعالي به. والسفر في الفصل الخريفي من نصف أكتوبر. وفيه تتحرك الريح الشرقية. ومدتها أقصر من المدة الربيعية. وإنما هي عندهم خلسة من الزمان قد تكون خمسة عشر يومًا وأكثر وأقل. وما سوى ذلك من الزمان فالرياح فيه تختلف. والريح الغربية أكثرها دوامًا. فالمسافرون إلى المغرب وإلى صقيلية وإلى بلاد الروم ينتظرون هذه الريح الشرقية في هذين الفصلين انتظار وعد صادق. فسبحان المبدع في حكمته، المعجز في قدرته، لا إله سواه).
فأسبح بحمده. وأذكر أنه في هذه الخلسة من الزمان، من كل عام، يخرج صيادو عكا العرب إلى عرض البحر بمراكبهم الصغيرة ليصطادوا سمك البلاميدا الكبير، جرا. وهو سمكُ أجنبي لا تحسن العربيات طهوه.

فيقول صاحبي: هذا البحر يهدأ في الربيع وفي الخريف. وهما أحسن الفصول في بلادكم الحسناء حتى تكاثر العشاق عليها، طبقات طبقات، فلم يبق من العلوم ما يصلح لدراسة تاريخها سوى الأرخيولوجيا في استقراء آثارها الدارسة.
فأقول: في الربيع التقيت الطنطورية. وفي الخريف ضيعت ابنها. وحياتي بينهما خلسة من الزمان.
*زار عكا في عام 1158

20-الجرح المفتوح

وبقيت عشرين عامًا أنتظر عودتها. فقد أخذوها مع غيرها من المتسللين إلى حيفا، من الناصرة ومن المجيدل ومن يافة ومن معلول ومن شفا عمرو ومن عبلين ومن طمرة، وكل عامل تسلل إلى حيفا ليطعم عياله، وألقوا بها في سهل جنين بين ألغام الإنجليز والعرب واليهود.
وبعضهم اختبأ بين الخرائب، وبين الأعواد، ولم يصل إلى الخطوط الأردنية. بل انتظر حتى أعتمت ونام النهار، فعاد أدراجه. فعادوا وطردوه. فعاد. فعادوا وطردوه. فعاد، حتى يومنا هذا.
وبعضهم ظل يمشي حتى تلقاه العسكر الأردني بالشتائم. فظل يُشتم حتى يومنا هذا.
وكانت (يعاد) بين الذين لم يعودوا. وواحد من المتسللين العائدين وضع في يدي، خلسة، ورقة. فإذا هي رسالة منها لم أقرأها إلا بعد أن وثقت من خلو المكان من الجهاز. وهي الورقة السرية الوحيدة التي احتفظت بها طول هذه الأعوام العشرين لكي أقنع نفسي بأنني قادر على تحدي الجهاز، ولأنني اعتبرتها عقد زواج.
كتبت (يعاد):
أرجو ممن يجد هذه الرسالة أن يوصلها إلى زوجي سعيد أبي النحس المتشائل، وادي النسناس - حيفا
سعيد، يا زوجي!
الوداع يا حبيبي. إنني أنتظر الموت عبر الحدود. ولكنني أموت وأنا مطمئنة على أنك ستنقذ والدي من السجن. سلم على أختي، واعتن بأولادها. الوداع، الوداع يا حبيبي.
زوجتك (يعاد)
وعلمت أنها لم تمت. فقررت أن لي زوجة في جنين، أو في مخيم لاجئين. فأخذت أهتم بجمع الشمل.
وكنت حريصًا على الاستماع إلى رسائل المغتربين إلى ذويهم من إذاعة عمان. ولكنني لم أقو، أبدًا، على توجيه تحية إليها في برنامج ‏ (سلام وتحية) الإسرائيلي وكان يستهل بأغنية فريد الأطرش: (أحبابنا يا عين، ما هم معانا. رحنا وراحوا عنا، ما حدش منا استنى. عيني يا عيني). فأمسح الدموع عن عيني في غفلة الجهاز، حتى لم تبق إذاعة عربية إلاّ أذاعت مثل هذا البرنامج. هذه تبدؤه (راجعون، راجعون)، وتلك: (وسلامي لكم، يا أهل الأرض المحتلة، يا منزرعين بمنازلكم، قلبي معكم وسلامي لكم) وأخرى: (يا مرسال المراسيل عالدرب القريبة. خذ لي بدربك هالمنديل واعطيه لحبيبي)، حتى اختلط الحابل بالنابل، فضاعت (يعاد) كليًا.
فلما وقعت حرب الأيام الستة، وصار مرسال المراسيل يهتف: (نصر من الله وفتح قريب)، لم أعد أبكي على (يعاد) بل على حالي، وبدون أي خوف من الجهاز لأن الجميع تجهز.
ذلك أن يعقوب رثي لحالي. فلحقني إلى الساحة التي حشرونا فيها، في الزاوية بين شارع الجبل وشارع العباس، فأخرجني قبل أن يبدأ الفرز، وقبل أن ألتقي رأس الخيش. ولما حكيت له ما جرى لي مع (يعاد)، لامني على أنني لم أخبر العسكر بالحقيقة من اللحظة الأولي. ووعدني أن يتدبر الأمر مع أولي الأمر وأن يجدوا (يعاد) (حتى ولو كانت في قطر)، وأن يعيدوها إلىّ.
- بشرط واحد يا سعيد. وهو أن تكون ولدًا طيبًا.
- حاضر.
- وأن تخدمنا بأمانة.
- حاضر.
وكل ذلك حرصًا على مستقبل (يعاد) المسكينة، التي وعد أن يعيدها إليّ.
وقال: بالطبع، سيطول الأمر بعض الوقت.
ولكنه طال طول الوقت.
وفي كل انتخابات جرت في هذه البلاد كان يقنعني بأنه، حال الانتهاء من فرز الأصوات، سيأخذني إلى بوابة مندلباوم لاستقبال (يعاد).
- فهات همتك!
فكنت لا أنام ولا أهدأ وأنا ألاحق الشيوعيين، وأحرض عليهم، وأنظم الاعتداء علىهم، وأشهد ضدهم، وأندس في صفوف تظاهراتهم، فأقلب صناديق القمامة في طريق التظاهرة، وأهتف بسقوط الدولة، لتبرير اعتداء الشرطة عليهم، وأوسوس في آذان الشيوخ أنهم مزقوا القرآن الكريم في الأعظمية، وأجلس على صندوق الاقتراع من السادسة صباحًا حتى منتصف الليل، ولا أنال أجرًا على هذه المهمة سوى إحياء الوعد بعودة (يعاد).
أما بقية زملائي، في المهمة، فكانوا يترقون في المناصب المخصصة لنا. فالشلفاوي صار عضو كنيست. ونظمي الشاويش أصبح شاويشًا. وعبد الفتاح داهن زقمه صار مدير مدرسة، وزوجه مديرة مدرسة، وابنته معلمة، مع أن ابنه وقع في أيدي الشيوعيين فبعثوه يتعلم الطب في موسكو.
ما بقي بدون أجر غيري وغير يعقوب، الذي أصبحت أنا أجره. فلما دمجوا اتحاد عمال فلسطين في الهستدروت عينوه موظفًا في الدائرة العربية، وأنا تحت يده.
ولم تنقذني الهمة التي أبديتها في الخدمة من غضب يعقوب، الذي لم تنقذه من غضب الرجل الكبير، ذي القامة القصيرة، وهو الذي يضع على عينيه نظارة سوداء في الغرفة المعتمة المسدلة الستائر. فما أن تظهر نتيجة انتخابات حتى يستصحبني هائجًا مائجًا.
- راحت (يعاد) عليك. كيف سمحت للشيوعيين بأن ينالوا كل هذه الأصوات?
- أنا?
- يا ألله! خيرها بغيرها.
وعلى الرغم من كل أفعالي ظللت أشعر براحة الضمير، أنني أنشد التقاء (يعاد)، حتى تزوجت فصار السر الذي بيني وبين يعقوب، أن نعيد (يعاد)، يؤرقني كما لو أنه الخيانة الزوجية.
فأخذ يعقوب يضغط بكل ثقله على هذا الجرح.

19-يا سعيد، لا يهمّك، فإنّني عائدة!

كان المتسلل الأبدي، الفجر، يدهمني من النافذة الشرقية، وكنت راقدًا أحبس أنفاسي، مثلما يحبسها ولد طلع الفجر عليه وقد بلل فراشه فينتظر عجيبة تنقذه من مصيبة، فإذا طرق شديد على الباب نفضني فألقاني في غرفة (يعاد) التي كانت واقفة وقد ارتدت جميع ثيابها، وهي ترتجف جزعًا.
قالت: هل جاؤوا?

قلت: لست أدري.
- فمن الطارق?
- لست أدري.
- أغلق الباب علي، ولا تخبرهم بوجودي هنا، بعرضك!
واشتد طرق الطارق. وسمعنا لغطًا.
فهمست: يا حياتي.
فهمست: ليس الآن، ليس الآن.
- أنت لي.
- فيما بعد، فيما بعد.
- بل الآن، الآن.
فابتعدت عني، فتشبثت بها، ففرت إلى غرفتي، فوقعنا على السرير، فسمعنا الباب الخارجي ينخلع. فانخلع ضلعي الشمال. فأغلقت الباب عليها، ووقفت أمامهم في ثياب النوم.
لقد كانوا عساكر.
- تفتيش!
- لماذا خلعتم الباب?
فأزاحني أحدهم من أمامه. فانتشروا في البيت ينبشون الدواليب ويقلبون الأدراج.
- هل أنت وحدك هنا?
- وحدي.
وكنت، في هذه الأثناء، قد لبست بنطلوني وقميصي ووقفت مستحكمًا أمام باب الغرفة التي اختبأت فيها (يعاد). واستللت بطاقة تدل على نسبي إلى اتحاد عمال فلسطين، واستعذت بالأدون سفسارشك، فكفوا عن النبش والكش.
إلاّ أن الذي بدا رئيسًا عليهم شك في أمر الغرفة التي وقفت أمام بابها المغلق. فأزاحني عنه ليفتحه.. فتسمرت في مكاني. فصاح: افتح! فقلت: لا شيء هناك. فثار غضبه وتقدم نحو الباب. فمددت ذراعي على طولها وقد قررت أن أستشهد. فنظر وراءه إلى جماعته وضحك. فلم يضحكوا. فأمرهم أن ينقضوا عليّ. فترددوا. فزعق. فانقضوا دفعة واحدة. وجرجروني حتى أخرجوني خارجًا. ثم دحلوني على الدرجات من الطابق الثالث. فظلت الأيدي تتقاذفني وأنا مدحول حتى وجدتني في فناء الدرج تحت أقدام يعقوب ويدي متشبثة ببطاقة اتحاد عمال فلسطين، وأنا أمدها، متمددًا، نحو عينيه، فلا تبلغهما.
فصاح: إنني أعرف من أنت، يا حمار. قم وأخبرني بما حدث!
ولكنني لم أفعل.
فقد سمعنا، من فوق، صراخًا أنثويًا، وصوت لطمات، وركل، وجلبة. وتطلعنا إلى فوق فإذا بمعركة حامية تدور بين (يعاد) وبضعة عساكر، كانوا يقذفون بها على الدرج إلى أسفل. ووقف عساكر آخرون وهم يحاولون ألاّ يروا ما يحدث. وهي تقاوم وتصرخ وتركل بقدميها. وعضت كتف أحدهم فصاح من الألم وولى بعيدًا. وظلوا يدفعونها وهي تقاومهم وتركلهم حتى ألقوا بها في فناء الدرج، فهبطت على قدميها منتصبة القامة ورأسها في السماء.

وقال أحدهم وهو يلهث: متسللة. فصرخت: هذه بلدي، داري، وهذا زوجي.
فلفظ يعقوب شتيمة ذات خمسة أحرف.
فنسبتها إلى أمه.
فتكاثروا عليها. ودفعوها أمامهم إلى سيارة كانت امتلأت بالخلق من أمثالها، وذهبوا.
وسمعتها، والسيارة تتحرك، تنادي بأعلى صوتها: سعيد،
يا سعيد، لا يهمك، فإنني عائدة!
وكنت، بعد، متمددًا.